تداول سم الأفعى أوصلنا إلى هذه الكارثة
الأزمة الحالية بسبب نظرية اقتصادية خاطئة. نظرية اقتصادية أنكرت دور أرواح الحيوانات في إيصالنا إلى هذا الجنون والفزع.
كانت ليديا لوبوكوفا، زوجة الاقتصادي جون ماينارد كينز، راقصة بالية مشهورة. وكانت أيضاً مهاجرة روسية. لذلك كان كينز يعرف من خبرة عائلة زوجته مساوئ العيش في أسوأ الاقتصادات الاشتراكية. لكنه أيضاً كان يعرف قبل ذلك الصعوبات الجمة التي جاءت من الرأسمالية غير المنظمة، وغير المقيدة. فقد عاش خلال فترة الكساد في بريطانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. ومن هنا جاء الإلهام لكينز من أجل إيجاد حل وسط للاقتصادات الحديثة.
إننا نشهد في هذه الأزمة المالية انبعاث الاقتصاديات الكينزية من جديد. ونتحدث مرة أخرى عن كتابه الذي صدر في 1936 بعنوان "النظرية العامة للتوظيف، والفائدة، والنقود" The General Theory of Employment, Interest and Money، الذي تم تأليفه خلال فترة الكساد العظيم. وشهدت تلك الحقبة، كما في الوقت الحاضر، العديد من الدعوات لإنهاء الرأسمالية كما نعرفها. وكان يطلق على أعوام الثلاثينيات من القرن الماضي ذروة أيام الشيوعية في البلدان الغربية. والحل الوسط الخاص بكينز يتفادى البطالة ونوبات الفزع والجنون الخاصة بالرأسمالية. لكنه يتفادى أيضاً الضوابط الاقتصادية والسياسية الخاصة بالشيوعية. وأصبحت النظرية العامة كتاب الاقتصاد الأكثر أهمية في القرن العشرين بسبب رسالته المنطقية المتوازنة.
في الأوقات التي يكون فيها معدل البطالة مرتفعاً، على الحكومات التي تتمتع بالجدارة الائتمانية أن توسع الطلب بواسطة الإنفاق في ظل وجود عجز. وبعدئذ، في الأوقات التي يكون فيها معدل البطالة متدنياً، على الحكومات أن تسدد الديون الناتجة عن ذلك. وبوجود هذا التغيير البسيط كما يبدو في الإجراءات، يمكن أن يكون النظام الرأسمالي مستقراً. ولا حاجة لإجراء جراحة جذرية للرأسمالية.
كان المتمسكون برسالة كينز في غاية الحماس لتطبيق هذه السياسة البسيطة، على جانبي الأطلسي، لدرجة أنهم فشلوا في ملاحظة – أو ربما أهملوا الأمر بشكل متعمد – أن النظرية العامة لديها أيضاً رسالة أعمق وأكثر جوهرية بشأن الكيفية التي عملت بها الرأسمالية، ولو أنه جاء على ذكرها بشكل مختصر. وشرحت النظرية لماذا كانت الاقتصادات الرأسمالية، إذا تم تركها تستخدم أدواتها دون وجود التوازن الحكومي، غير مستقرة في الأساس. وشرحت أيضاً سبب ضرورة أن تعمل الحكومات كقوة موازنة، كي تعمل الاقتصادات الرأسمالية على نحو جيد.
كان العامل الرئيسي في هذه الرؤية هو الدور الذي أعطاه كينز للحوافز النفسية للناس. وفي العادة يتجاهل هذه الحوافز علماء الاقتصاد الكلي. وأطلق عليها كينز نظرية أرواح الحيوانات، وكان يعتقد أنها مهمة بشكل خاص في تحديد إقبال الناس على اتخاذ المخاطر. وقال إن حسابات رجال الأعمال كانت غير مستقرة: "إن أساس معرفتنا لتقدير عوائد عشر سنوات، فيما يتعلق بسكة حديدية، أو منجم نحاس، أو مصنع منسوجات، أو شهرة دواء محمي ببراءة ، أو أسطول سفن عابرة للأطلسي، أو بناية في الحي المالي في لندن، بسيط للغاية، وفي بعض الأحيان ليس بالشيء الذي يذكر". ورغم ذلك، فإن الناس بطريقة ما يتخذون القرارات ويتصرفون بناءً عليها. ويمكن تفسير ذلك على أنه "نتيجة أرواح الحيوانات"، و"هناك رغبة عفوية للتصرف".
ثمة أوقات يكون فيها الناس بشكل خاص ميالين إلى المغامرة - في واقع الأمر، المغامرة بشدة. ويدعم مغامراتهم في هذه الأوقات الإيمان المبتهج بالمستقبل، والثقة في الظروف الاقتصادية. وهذه هي الفترات التي تكون فيها الدورة التجارية في الاتجاه الصاعد. لكن بعدئذ تتجه أرواح الحيوانات إلى الجهة المعاكسة، ويكون الناس عندها حذرين للغاية.
في الكتاب الذي ألفته مع جورج أكيرلوف، "أرواح الحيوانات" Animal Spirits (مطبعة برينستون 2009)، توسعنا في مفهوم كينز، وربطناه بالكتب الحديثة حول الاقتصاديات السلوكية والسيكولوجية. وهناك وضوح أكبر بشأن الأساسيات السيكولوجية لأرواح الحيوانات في يومنا هذا.
مثلا، أثبت المختصون في علم النفس الاجتماعي، وعلى الأخص روجر شانك وروبرت أبلسون، إلى أي حد تحفز القصص، ورواية القصص، خصوصاً قصص المصالح الإنسانية، جانباً كبيراً من السلوك البشري. ويمكن أن تكون هذه القصص أكثر بكثير من مجرد حسابات مجردة. فالأمزجة الاقتصادية للبشر تعتمد إلى حد كبير على القصص ذات الصلة بالاقتصاد التي يرويها الناس لأنفسهم، ولبعضهم بعضا.
رأينا هذه القصص تأتي وتذهب في تعاقب سريع في السنوات الأخيرة. كانت لدينا في البداية فقاعة الإنترنت، والقصص التي تثير الحسد حول الشباب من أصحاب الملايين. وانفجرت الفقاعة عام 2000، لكن سرعان ما حل مكانها فقاعة أخرى، تتعلق "بمروجي" العقارات الأذكياء.
لم يكن هذا الجنون نتيجة قصة ما حول الناس فحسب، بل أيضاً قصة حول الكيفية التي كان الاقتصاد يعمل بها. وكان جزءاً من قصة أن جميع الاستثمارات في القروض العقارية المورقة كانت آمنة أن أولئك الأشخاص الأذكياء كانوا يشترونها. وهؤلاء الأشخاص المحظوظون الذين كانوا يشترون هذه الأصول، لا بد أنهم يدققون بشأنها، وبناءً على ذلك، لا حاجة بنا إلى التدقيق بشأنها. وعلينا فقط أن نسير إلى جانبهم.
ما الذي جعل هذا الجنون، وهذه القصص، تستمر فترة طويلة كما حصل؟ الأمر المذهل هو أننا وصلنا إلى هذه الأزمة الاقتصادية والمالية الحالية بسبب نظرية اقتصادية خاطئة. نظرية اقتصادية أنكرت بحد ذاتها دور أرواح الحيوانات في إيصالنا إلى هذا الجنون والفزع.
وفقاً للنظرية "الكلاسيكية" المعيارية، التي يعود تاريخها إلى آدم سميث وكتابه "ثروة الأمم" Wealth of Nations" الذي ألفه عام 1776، فإن الاقتصاد مستقر في الأساس. وإذا لاحق الناس على نحو منطقي مصالحهم الاقتصادية في أسواق حرة، سيستنزفون بشكل متبادل الفرص المفيدة لإنتاج البضائع والتبادل كل مع الآخر. ومثل ذلك الاستنزاف للفرص من أجل تجارة مفيدة بشكل متبادل ينتج عنه التوظيف الكامل. وبموجب هذه النظرية لا يمكن أن يحدث خلاف ذلك.
بطبيعة الحال، بعض العمال سيكونون عاطلين عن العمل. لكنهم لن يكونوا قادرين على إيجاد وظيفة لأنهم في حالة بحث مؤقت عن وظيفة، أو لأنهم يصرون على الحصول على راتب مرتفع بشكل غير منطقي. وينظر إلى مثل تلك البطالة على أنها طوعية، ولا تثير التعاطف.
تقول لنا النظرية الكلاسيكية إن أسواق المال ستكون مستقرة أيضاً. وسيقوم الأشخاص بمقايضات يعتبرون أنها تفيدهم فقط. وعند دخول أسواق المال – شراء أسهم، أو سندات، أو الحصول على قرض عقاري، أو حتى أوراق مالية بالغة التعقيد – فإنهم سيبذلون الجهود اللازمة لرؤية ما إذا كان ما يشترونه يستحق قيمة ما يدفعون لقاءه، أو ما يبيعونه.
الأمر الذي تهمله هذه النظرية هو أن هناك أوقاتاًً يكون فيها الناس غاية في الثقة. وتفشل أيضاً في الأخذ بالحسبان أنه إذا كان بإمكانها تنفيذ ذلك على نحو يحقق الربح، فإن الرأسمالية ستنتج ليس ما يريده الناس في حقيقة الأمر فحسب، وإنما أيضاً ما يعتقدون أنهم يريدون. ويمكنها أن تنتج الدواء الذي يريد الناس أن يشفي أمراضهم. وهذا ما يريده الناس في واقع الأمر. لكن إذا استطاعت أن تفعل ذلك على نحو يحقق الربح، فإنها ستنتج أيضاً ما يعتقد الناس بشكل خاطئ أنهم يريدونه.
ستنتج سم الأفعى. وليس فقط ذلك، يمكنها أن تنتج أيضاً الرغبة في الحصول على سم الأفعى بحد ذاته. وهذا جانب سلبي للرأسمالية. وفشلت النظرية الاقتصادية المعيارية في الأخذ في الحسبان أن مشتري وبائعي الأصول ربما لن يبذلوا الجهود اللازمة، ولم تكن السوق تبيعهم التأمين ضد المخاطر في الأوراق المالية المعقدة التي كانوا يشترونها، لكنها كانت بدلاً من ذلك، تبيعهم النظير المالي لسم الأفعى.
هناك عبرة أخلاقية أوسع نطاقاً تتعلق بكل ذلك – بشأن طبيعة الرأسمالية. فمن ناحية أولى، نريد أن نستغل حكمة آدم سميث. وللجانب الأكبر، فإن المنتجات التي أنتجتها الرأسمالية هي حقيقة ما نريده، وتم إنتاجها بسعر نحن على استعداد، ونستطيع أن ندفعه. ومن ناحية أخرى، عندما تكون الثقة عالية، ولأن من الصعب تقييم الأصول المالية من جانب أولئك الذين يشترونها، فإن الناس يشترون، ويشترون فعلياً سم الأفعى. وعندما يتم اكتشاف ذلك، كما يجب أن يتم دون أدنى شك، تختفي الثقة ويصبح الاقتصاد سيئاً.
إنه دور الحكومة عند مستويين اثنين للتأكد من عدم حصول هذه الأحداث. أولاً، من واجبها أن تنظم أسواق الأصول بحيث لا يتم إغراء الناس بشكل زائف لشراء الأصول الملوثة بسم الأفعى. ومثل هذه المعايير المتعلقة بأصولنا المالية تبدو منطقية للغاية، مثل معايير الطعام الذي نتناوله، أو شراء الدواء الذي نحصل عليه من الصيدلية. لكننا لا نريد أن نلقي بعيداً النواحي الجيدة من الرأسمالية مع تلك السيئة. وكي نستغل الجوانب الجيدة من الرأسمالية، فإن دور الحكومة عندما تحدث التقلبات، أن تشرف على أولئك الذين يمكنهم، ويريدون، إنتاج ما يريد الآخرون شراؤه. ودور الحكومة، بواسطة سياستها المالية والنقدية المتوازنة، المحافظة على التوظيف الكامل.
إن المبادئ الكامنة خلف مثل هذا الاقتصاد، ليست هي المبادئ ذاتها التي تكمن خلف اقتصاد اشتراكي. والحكومة، إلى الحد الممكن، تخلق فقط ظروف الاقتصاد الكلي الذي يفسح المجال أمام الاقتصاد كي يعمل جيداً.
هذا هو دور الحكومة. إنه دورها أن تضمن مبدأ "دعه يعمل بحكمة". إنها ليست الرأسمالية المتاحة للجميع التي اقترحت النظرية الاقتصادية الحالية، ويبدو أنه تم قبولها وكأنها الكلمة المقدسة من جانب المخططين الاقتصاديين، والعديد من الاقتصاديين أيضاً، منذ حكومتي تاتشر وريجان. لكنها أيضاً حل وسط مهم بين أولئك الذين يرون الكوارث الاقتصادية والبطالة في الرأسمالية غير المقيدة من جهة، وأولئك الذين يؤمنون بأنه يجب ألا تلعب الحكومة أي دور على الإطلاق.
إن فكرة أن الرأسمالية غير المقيدة وغير المنظمة سوف تحدث دون أدنى شك النتائج الجيدة، كانت نظرية اقتصادية خاطئة تتعلق بالكيفية التي تتصرف بها المجتمعات الرأسمالية، وما يسبب أزماتها. وتفشل تلك النظرية الاقتصادية الخاطئة في الأخذ في الحسبان الكيفية التي تؤثر بها نظرية أرواح الحيوانات على السلوك الاقتصادي. وتفشل في الأخذ في الحسبان أدوار الثقة، والقصص، وسم الأفعى، في التقلب الاقتصادي.
ــــــــــــــ
الكاتب أستاذ آرثر إم. أوكن للاقتصاد في جامعة يال، والمؤسس المشارك وكبير الاقتصاديين في ماكروماركتس MacroMarkets. للانضمام إلى النقاش يرجى زيارة الموقع الإلكتروني www.ft.com/capitalismblog