سياسة نقدية سعودية حكيمة رغم المتغيرات

كشف التقرير الأخير الصادر عن الإدارة العامة للأبحاث الاقتصادية والإحصاء بمؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) بتاريخ شباط (فبراير) من العام الجاري، عن جملة من المؤشرات والدلالات الاقتصادية والنقدية، التي تؤكد على قوة ومتانة أداء القطاع المصرفي السعودي، بما في ذلك على سلامة السياسة النقدية، التي تنتهجها الحكومة في مكافحة التضخم، والعمل على استقرار أداء الاقتصاد السعودي.
من بين أبرز التطورات النقدية التي كشف عنها التقرير المذكور، تحقيق عرض النقود بمعناه الشامل والواسع (ن3) خلال الربع الرابع من عام 2008، ارتفاعاً بلغت نسبته 4.6 في المائة (40.6 مليار ريال)، ليبلغ نحو 929.1 مليار ريال، مقارنة بارتفاع بلغت نسبته 3.2 في المائة (27.8 مليار ريال) في الربع السابق، هذا بالإضافة إلى تسجيل عرض النقود بتعريفه، وكما أسلفت الشامل والواسع (ن3) لمعدل نمو سنوي بلغت نسبته 17.6 في المائة (139.4 مليار ريال).
هذا التحسن الكبير الذي طرأ على عرض النقود بنهاية الربع الرابع من عام 2008، وكذلك الذي طرأ عليه بنهاية العام نفسه، يؤكد على حقيقة مهمة، تتمثل في استمرار انتهاج "ساما" لسياسة نقدية حكيمة خلال الربع الرابع من عام 2008، استهدفت تحقيق الاستقرار في أداء القطاع المالي في ظل الأزمة المالية العالمية، بما في ذلك العمل على توفير السيولة اللازمة للنظام المصرفي، لتمكينه من القيام بدوره التنموي المنشود، وبالذات في ظل انخفاض معدل التضخم السنوي في السعودية إلى مستوى 9 في المائة قس نهاية كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، مقارنة بما كان عليه في نهاية أيلول (سبتمبر) من العام نفسه، والذي كان بحدود 10.35 في المائة .
الأداء النقدي المتميز للاقتصاد السعودي، ما هو في حقيقة الأمر سوى نتاج انتهاج "ساما" لعدد من الإجراءات والسياسات النقدية، التي وكما أسلفت استهدفت تعزيز وضع السيولة في النظام المصرفي، بما في ذلك خفض تكلفة الإقراض لتلبية الطلب المحلي المتنامي على الائتمان المصرفي، الأمر الذي عزز بشكل كبير من قدرة وفعالية المصارف المحلية على التوسع في عمليات تمويل الأنشطة الاقتصادية المختلفة، التي تحقق النمو والازدهار المنشود للاقتصاد الوطني.
من بين أبرز الإجراءات على سبيل المثال لا الحصر، التي اتبعتها "ساما" لتعزيز وضع السيولة لدى المصارف المحلية هي: (1) خفض نسبة الاحتياطي القانوني Statutory Deposit Ratio على الودائع الجارية إلى 7 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 مقابل 13 في المائة في أيلول (سبتمبر) من العام نفسه. (2) خفض معدل اتفاقيات إعادة الشراء Repo Rate من مستواه السابق والبالغ 5.50 في المائة بشكل تدريجي إلى 2.50 في المائة في كانون الأول (ديسمبر) 2008، وكذلك تخفيض معدل الشراء المعاكسReverse Repo Rate من 2 في المائة إلى 1.50 في المائة. (3) خفض تسعيرة أذونات الخزانة Treasury Bills بنحو 50 نقطة أساس دون سعر فائدة الإيداع ما بين البنوك، هذا إضافة إلى تحديد سقف الإصدار في أذونات الخزينة إلى ثلاثة آلاف مليون ريال أسبوعياً بعد أن كان حجم الإصدار غير محدد. (4) قيام "ساما" بإنشاء ودائع في السوق النقدي المحلي Money Market بهدف تعزيز السيولة لدى المصارف المحلية والنظام النقدي، ليس فقط بالعملة المحلية، بل كذلك بالدولار، وذلك عن طريق إنشاء ودائع زمنية مع المصارف المحلية بلغ إجماليها بالعملة المحلية 6.100 مليون ريال، بينما بلغت قيمتها بالدولار 2.100 مليون دولار. (5) قيام "ساما" بتعزيز وضع السيولة بالنظام المصرفي من خلال إنشاء ودائع زمنية مع المصارف المحلية ولمدة طويلة نسبياً نيابة عن الهيئات والمؤسسات الحكومية، هذا وقد بلغ مجموع الودائع المنشأة باسم الهيئات والمؤسسات الحكومية نتيجة لاتباع ذلك الإجراء نحو 17.900 مليون ريال. (6) قيام "ساما" بإجراء عمليات مقايضة النقد الأجنبي Foreign Exchange Swaps خلال الربع الرابع من العام الماضي مع البنوك المحلية ولعدة فترات بهدف توفير السيولة اللازمة بالدولار الأمريكي للنظام المصرفي السعودي، هذا وقد بلغ إجمالي مبالغ عمليات مقايضة النقد الأجنبي 2.600 مليون دولار بنهاية الربع الرابع مع عام 2008، مقارنة بألف مليون دولار بنهاية الربع الثالث من العام نفسه.
نتيجة لتلك الإجراءات والسياسات النقدية المدروسة التي اتبعتها "ساما"، شهدت أسعار الفائدة على الودائع بين المصارف المحلية انخفاضاً ملحوظاً في الربع الرابع من العام الماضي، حيث انخفض معدل الفائدة بين البنوك المحلية لمدة ثلاثة أشهر SIBOR من 4.40 في المائة في نهاية الربع الثالث من عام 2008 إلى 2.57 في المائة في نهاية الربع الرابع من العام نفسه، ما ساعد بشكل كبير على خفض تكلفة التمويل، وفي توسع المصارف المحلية في منح الائتمان، الأمر الذي يؤكد عليه ارتفاع إجمالي مطلوبات المصارف التجارية من القطاع الخاص والقطاع الحكومي (ائتمان مصرفي واستثمارات) خلال الربع الرابع من عام 2008 بنسبة 1.3 في المائة (12.9 مليار ريال) ليبلغ نحو 976.6 مليار ريال، مقارنة بارتفاع بلغت نسبته نحو 6 في المائة (54.3 مليار ريال) في الربع السابق، هذا كما قد سجل حجم الائتمان المذكور ارتفاعاً سنوياً بنهاية الربع الرابع من عام 2008، بلغت نسبته 28.6 في المائة (217.1 مليار ريال)، وشكل حجم الائتمان ما نسبته 115.4 في المائة من إجمالي الودائع المصرفية مقارنة بنسبة 105.8 في المائة في نهاية الربع من العام السابق نفسه.
خلاصة القول، إن الإجراءات والسياسات النقدية الحكيمة التي اتبعتها "ساما" خلال الفترة الأخيرة لإدارة النقدية والسيولة المتوافرة لدى النظام النقدي والنظام المصرفي، التي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، خفض نسبة الاحتياطي النظامي على الودائع الجارية، وخفض معدل اتفاقيات إعادة الشراء، ساعدت إلى حد كبير في توفير السيولة اللازمة للنظامين المذكورين، وبالذات للنظام المصرفي الذي تمكن من ممارسة دوره التنموي المنشود منه على الوجه المطلوب.
لكن وعلى الرغم من إتباع ساما لسياسات وللإجراءات نقدية حكيمة في الماضي، ساعدت على توفير السيولة النقدية المطلوبة للمصارف المحلية لتمويل المشروعات التنموية، إلا أنه لا يزال هناك تحد في رأيي كبير قائم أمام "ساما"، وهو الذي يرتبط بمدى قدرتها على الاستمرار في توفير السيولة اللازمة للنظامين النقدي والمصرفي على حد سواء، وبالذات للنظام المصرفي، بالشكل الذي يمكنه من الاستمرار من التوسع في تمويل عملياته والأنشطة الاقتصادية المختلفة، ولا سيما في ظل الانخفاض الكبير الذي طرأ على أسعار النفط العالمية، واستمرار إرهاصات الأزمة المالية العالمية القائمة، إضافة إلى الركود الاقتصادي العالمي المحتمل، الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق، وكذلك تسجيل القطاع المصرفي لحجم ائتمان (ممنوح للقطاع الخاص وللقطاع الحكومي) مرتفع نسبياً إلى إجمالي حجم الودائع المصرفية.
ختاماً: رغم ذلك التوجس الذي يراودني بين الحين والآخر، إلا أنه لا يساورني أدنى شك بقدرة "ساما" على التعامل مع التحديات المقبلة، لا سيما أنها قد أثبتت في الماضي قدرة وفعالية كبيرة في التعامل مع المتغيرات، وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي