.. وأوجدت "القومية الاقتصادية" أيضا!
استطرادا - لا انتهاء - في الحديث عن الأزمة الاقتصادية العالمية (كيف ينتهي الحديث عن أزمة بهذا الحجم، وبتلك الوحشية؟)، وجد المتطرفون القوميون المحافظون في أوروبا موطئ قدم فيها، وأحدثوا حالة، تعمق الحوار الضيق مع الذات، ولا تترك مكانا لحوار متمدن مع الآخر، أو حتى مساحة ضيقة لتجاذب واقعي. وعلى عكس المحافظين – غير القوميين - الذين استناروا من أضواء الأزمة، وفهموا أن المغالاة في تطبيق الفكر المحافظ اقتصاديا، يجرد المجتمع من إنسانيته، تشبث المتطرفون في حق أرادوا به باطلا، واستطاعوا أن يخيفوا الحكومات أكثر من أي وقت مضى. لماذا؟ لأن الأزمة الراهنة أضعفت هذه الحكومات، بما في ذلك تلك، التي كانت تتمتع بقوة سياسية وانتخابية واضحة. فنحن أمام "قومية اقتصادية" متصاعدة، طالما تصاعدت حدة الأزمة. قومية لم تنفجر بفعل الانتماء الفكري أو الثقافي أو الجغرافي أو الديني أو العرقي، بل بمفعول أخطاء ارتكبها كبار الاقتصاديين في العالم، وباركها زملاؤهم "الكبار" من السياسيين. فالأخطاء المتراكمة، تولد كوارث متراكمة في كل المجالات، وتخلق مشاعر ورطت الغرب – والعالم - في القرن الماضي، في دفع ثمن لا يوازيه ثمن، من خلال حربين عالميتين، قتل فيهما أكثر من 80 مليون إنسان، ودمرتا البناء، ورفعتا الجدران عاليا حتى داخل البلد الواحد.
والخطير في الحالة الجديدة، أن "القومية الاقتصادية" لم تستهدف فقط أولئك القادمين إلى أوروبا، من آسيا أو المنطقة العربية أو إفريقيا أو أمريكا اللاتينية، بل استهدفت بصورة مخيفة حتى الأوروبيين، الذين يتمتعون – كما هو مفترض - بدستور متكامل يكفل أحقية كل فرد يحمل جنسية بلد ينضوي تحت لواء الاتحاد الأوروبي، الحصول على كل الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمدنية وغيرها ضمن نطاق هذا الاتحاد. فهذا الدستور يعامل البريطاني في فرنسا.. كالفرنسي، والإيطالي في إسبانيا..كالإسباني، واليوناني في ألمانيا.. كالألماني، بل وحتى اللاتيفي – نسبة للاتفيا- في بلجيكا.. كالبلجيكي. ولم يصل الأوروبيون إلى هذا الإنجاز، إلا بعد عقود من العمل والشك والريبة.. وحسن النوايا أيضا، ودراسات واختبارات استغرقت سنوات طويلة ليتحققوا من نجاعتها، دون أن ينسوا طبعا، أنه أفضل السبل، لإبقاء الحروب العالمية الكبرى عند الرقم اثنين، لا ثالث لهما.
لقد نزل الملايين في فرنسا وبريطانيا إلى الشوارع في عز البرد القارص الذي لم يضرب أوروبا الغربية منذ أكثر من 18 عاما، لا ليحتجوا على العمال الآسيويين والعرب والأفارقة وغيرهم، بل على قيام شركة " توتال" النفطية الفرنسية، بتوظيف عمال من أين؟ من البرتغال وإيطاليا. أي من دولتين عضوين في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو أيضا. وسرعان ما اتسعت حركة الاعتراضات لتشمل عمالا وموظفين من منشآت نفطية في كلا البلدين تضامنا مع زملائهم. وفي بلغاريا قطع المزارعون جسرا يصل بلادهم برومانيا لوقف توجه المزارعين الرومانيين إلى الأراضي البلغارية. المزارعون اليونانيون الغاضبون قاموا بالشيء نفسه مع بلغاريا نفسها، وذلك بإغلاق حدود بلادهم بالشاحنات الضخمة، ليمنعوا دخول العمال والمزارعين البلغار إلى بلادهم. تشيكيا الدولة التي أربكت تداعيات الأزمة العالمية تحضيراتها للانضمام إلى العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)، لأن العجز في الميزانية العامة أكثر من 3 في المائة من الناتج الوطني الإجمالي. هذه الدولة ابتكرت طريقة فريدة للتخلص من العمال والموظفين الأجانب، وهي أن تدفع الحكومة 500 يورو وتذكرة سفر بالطائرة، لكل أجنبي مقيم فقد عمله نتيجة الأزمة العالمية. الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي فهم المخاطر الاجتماعية ( والقومية) للأزمة – وإن متأخرا- فحاول العمل على تهدأ ما عرف بـ "الحرارة الاجتماعية"، من خلال صرف 2600 مليون يورو لمساعدة الفرنسيين الأكثر تضررا من حالة الانكماش الاقتصادي. لقد أرادها اجتماعية، لكن في الواقع لا يمكنه أن يدير وجهه عن بعدها القومي، ولا عن مخاطرها الأوروبية العامة.
إذا.. هي "القومية الاقتصادية" المولودة من الأزمة العالمية، التي وإن دفعت صناع القرار، لاتخاذ خطوات لتخفيف مخاطرها، على أمل إنهائها في مرحلة لاحقة، لكنها لا توفر لهم "السلاح" الفعال في تجريد المشاعر القومية المخيفة، لا سيما في وقت الأزمات، وتحديدا الأزمات التي تنال من لقمة العيش، وتحيط الأسرة بمخاطر جمة، في مقدمتها خسارة المنزل الذي تقيمه فيه، لعجزها عن دفع قسطه الشهري. ومن هنا.. تتوافر البيئة الملائمة بل والمطلوبة للحركات والأحزاب القومية المتطرفة، أو – كما يقال – الشعبوية، خصوصا بعد أن تعرضت هذه الأحزاب في العقود الثلاثة الماضية، إلى "تصفيات سياسية" في دولها، ليس فقط من أجل حماية "الوئام العرقي" في هذه البلدان، بل أيضا لإزالة عقبة في وجه التكامل أو الانصهار الأوروبي. في بريطانيا – على سبيل المثال- البلد الأكثر تسامحا مقارنة بغيره من الدول الكبرى في أوروبا، بدأت المخاوف تظهر. فالحزب القومي البريطاني، الذي لا يمتلك أي مقعد في برلمان بريطانيا – هناك برلمانات محلية في المملكة المتحدة- استغل عمليات توظيف الإيطاليين والبرتغاليين في حالة شركة "توتال"، لينشر"السموم القومية" في أوساط العمال البريطانيين، إلى درجة دفعت قادة النقابات العمالية في البلاد، لإظهار مخاوفهم من انتشار هذا المرض الذي تفشى، بحجة الحماية القومية اقتصاديا ومعيشيا. وهذا ما دفع بدوره وزير التجارة بيتر ماندلسون للإسراع إلى دعوة السياسيين – والنقابيين - إلى عدم الانجرار نحو سياسة معادية للأجانب.
لكن أحدا لا يعتقد بوجود صدى ما لكلام ماندلسون، لأن البيئة مواتية بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية، لتحرك "الشر القومي". فخيبة أمل الناس من حكوماتهم، وصدمتهم من بشاعة الأزمة، تمنح المتطرفين المعاول المطلوبة لنشر أو تعزيز الميول الشعبوية. وفي الواقع تعزز الأزمة – بفعل فشل الحكومات – حتى اليسار المتطرف، كما شجعت اليمين المتطرف. ولذلك لا أبالغ إن قلت، بأنها – أي الأزمة - يمكن أن تتصدر قائمة الأرقام والأعمال القياسية في موسوعة "جينز"، لأنها وفرت بيئة مثالية لتيارين متناقضين، بل ومتحاربين، بصرف النظر عن مستوى الأضرار الناجمة عن كل منهما. فالفوضى الاقتصادية التي قد تظهر من جهة اليسار، لها مزايا إنسانية واجتماعية إيجابية، لكنها بدون آفاق عملية، ولا تحاكي المستقبل، لأن قضية سيطرة الدولة على الاقتصاد، لم تعد واردة لا قبل الأزمة الاقتصادية ولا بعدها، كما أنها فشلت بعد تجارب طويلة في دول كبرى وصغرى، من الاتحاد السوفيتي السابق إلى ألبانيا، وما بينهما. أما أولئك المقبلون من جهة اليمين المتطرف، فهم لا ينشرون فوضى اقتصادية فحسب، بل يزرعون البلاد بقنابل موقوتة وصواعق دائمة التحفز للانفجار، ويعيدون رسم صورة الفوهور الألماني، الذي حلم بعالم لا يسوده إلا العرق الآري، الخالي حتى من الألمان المصابين بالعمى والطرش والخرس والمقعدين والمرضى النفسيين.
ماذا يفعل القادمون من جهة اليمين المتطرف أيضا؟. إنهم يهددون إنسانية المكان.. كما الزمان.