الإعلام والحقيقة.. !

تسيطر الحيرة على المتخصصين في السلوك الإنساني حينما يتناولون بالدراسة سلوك المتلقين (الجمهور عموما) عند تعرضهم لوسائل الإعلام. وتظهر عدة تساؤلات: ما الذي يريده الإنسان تحديدا؟ هل يريد الحقيقة ذاتها؟ أم أنه يريد الحقيقة مثلما يريد لها أن تكون؟ هل يبحث المتلقي عن ما يشبع رغبته المعرفية وتحقيق علمه بما يدور حوله اعتمادا على حقه في المعرفة The right to know ؟ أم أنه يسعى لتدعيم أفكاره الداخلية بغض النظر عن طبيعة الحقائق التي ربما تتعارض مع هذه الأفكار؟
لا يمكن لوسائل الإعلام أن تقدم كل الحقائق كما يريدها جميع المتلقين. الحقيقة محدودة ومقننة، ولا تستطيع أن ترضي الجميع مهما بلغت قدرتها على معرفة الجمهور الذي تتوجه إليه. هذه الحقائق تساند بعضها الآخر حينما يتم التعامل معها على أنها معطيات تعمل ضمن قانون الحياة العام الذي يتقاسمه الخير والشر، والحب والكره، والإيمان وعدم الإيمان. والوسيلة الإعلامية حينما تحاول تقديم حقيقة ما فإنها تسعى لتعزيز هذه الحقيقة بجملة من القوى المؤثرة ضمن عملية تقديم الرسالة الاتصالية والتي تعد (الصورة) بكل أشكالها الأبرز، وفي الوقت الذي لا يمكن فيه لوسائل الإعلام عرض الحقيقة كاملة، فإن المتلقي كذلك لا يستطيع تلقي الرسالة الإعلامية كاملة.
وتقع الإشكالية الفعلية حينما تنمو قناعة لدى المتلقي بأن الوسيلة الإعلامية لا تقدم الحقيقة كما هي وتحاول تزييفها. ولكن أليس من الممكن أن يكون المتلقي محقا؟ أليس من المعقول أن تتعمد الوسيلة الإعلامية الكذب وتزييف الحقائق؟ هل الحق دائما في صف وسائل الإعلام؟ لماذا يكون المتلقي دائما هو النقطة الأضعف التي تُتهم بعدم الفهم والوعي؟ ألا يعقل أن تكون الوسيلة الإعلامية هي مصدر الخطأ؟ أليس القائمون على وسائل الإعلام بشر؟ ألا يمكن أن يكذبوا وأن يغشوا وأن يزيفوا وأن يخونوا ؟ أليس هناك وسائل إعلام تعمل لصالح جهات معينة؟ أليس هناك وسائل إعلام مكرسة لتقديم شخصيات معينة وبناء صورتها الذهنية عند المتلقي؟ أمن الوعي أن ننكر كل ما تقوم به وسائل الإعلام الرسمية في جميع دول العالم لتقديم الحكومات والشخصيات الرسمية بالصورة النموذجية؟
وعلى الرغم من كل ذلك تظل الوسيلة الإعلامية الصوت الأقوى بما تملكه من قدرة على النشر أو البث أو التوزيع ضمن نطاق واسع، وهنا تتضاءل قدرة المتلقي أمام قدرة الوسيلة الإعلامية التي تحقق بقاءها بقدرتها على إيجاد مصادر تمويل ودخل ثابتة تساعدها على الاستمرار ولعل الإعلان أبرزها وإن لم يكن الوحيد.
الحقيقة بتصور فلسفي هي القدرة على الرؤية من مختلف الجهات والتي قد لا يتمكن الكثيرون من معرفتها فضلا عن رؤيتها. إن أخطر الحقائق تلك التي تسهم في تشكيل رأي عام، ولذا فإن قدرتنا على تمييز الحقيقة هي الخطوة الأولى في الحكم على ما تبثه وسائل الإعلام، وهي الخطوة الأهم في حكمنا على هذه الوسائل وما تبثه لنا. كما أن رغبتنا في جعل الحقيقة حقا مشتركا للجميع يمنحنا رفض كل ما يقلل من وعينا واحترامنا لذواتنا ولحقنا في المعرفة. كما أننا في حاجة لمحاولة فهم التصور العام لإحدى حقائق الحياة وهو أنه ( ليست الأمور دائما على ما تبدو عليه)!
هناك.. في أعمق نقطة في قلوبنا توجد بوصلة إنسانية عالية الحساسة تشير دائما إلى الحق والخير ، فلنلجأ إليها حينما نشعر أن وسيلة ما أربكتنا بعرضها لحدث ما، وأننا في حاجة للتعرف على صدق هذا الحدث ومعرفة حقيقته وما موقفنا تجاهه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي