هشاشة أمننا الغذائي تعرضنا للمخطار

تنكشف الدول على مخاطر اقتصادية متنوعة مثلما تنكشف المؤسسات والمصارف على مخاطر مالية. ولعل من أكثر المخاطر الاقتصادية جدية بالنسبة لنا هي انكشاف بلادنا على مخاطر مائية وغذائية عالية. فمع التغير المذهل في عدد وهيكل السكان خلال العقود الخمسة الأخيرة، أضحى المتاح لنا من المياه محدودا بالنظر إلى حاجتنا المتزايدة، سواء للاستخدامات المنزلية أو الزراعية والصناعية. وكذلك الأمر من ناحية الغذاء، فقد أظهرت أزمة ارتفاع أسعار المواد الغذائية التي عانيناها خلال عام 2008، مقدار هشاشة أمننا الغذائي أيضا، خاصة أننا مجتمع يعتمد بدرجة كبيرة على الاستيراد في تلبية حاجاته الغذائية.
إن الأزمات التي تقع في السلع الأساسية لها مخاطر مضاعفة، فزيادات أسعار الغذاء تعصف عادة بالفقراء وهي حال تكون مصدرا لاضطرابات وقلاقل يمكن أن يكون لها مضاعفات تتجاوز كثيرًا نطاقها. وكان البنك الدولي قد حذر خلال هذا العام من احتمال تعرض 33 دولة لاضطرابات سياسية وفوضى اجتماعية نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية الأساسية التي جرت خلال هذا العام، وما شاهدناه من تدافع الناس على الرغيف في بعض الدول العربية قبل أشهر هو مصداق لهذه المخاوف والتنبؤات. لكن لحسن الحظ حدث تراجع ملموس في أسعار المواد الغذائية مع انفجار أزمة المال الدولية، ودخول الاقتصاد العالمي في دورة كساد. بيد أن ما حدث خلال العام الماضي يجب أن يدفعنا بصورة جادة لرسم استراتيجية أمن غذائي ومائي.
وللأسف فإن هشاشة أمننا الغذائي والمائي لا تتعلق ببلادنا فحسب، وإنما هي ظاهرة اقتصادية تشترك فيها كل الدول الخليجية والعربية بما فيها تلك التي تجري على أرضها الأنهار. ونظرا لاعتماد معظم البلاد العربية على الزراعة المطرية، حيث تتعرض لقسوة الظروف المناخية وتقلباتها، فإن مساهمة قطاعاتنا الزراعية ما زالت متواضعة بل ومتراجعة. فقد تناقصت الأهمية النسبية للقطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد القومي على مستوى الوطن العربي. بسبب تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الزراعي لأقل من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في القطاعات الاقتصادية الأخرى. كما يشير الميزان التجاري للسلع الزراعية إلى ضآلة مساهمة الصادرات الزراعية في تمويل الواردات الكلية على مستوى جميع الدول العربية. بل إن نسبة قيمة الصادرات الزراعية إلى قيمة الواردات الكلية في تناقص مستمر. الأمر الذي يشير إلى ضآلة مساهمة الصادرات الزراعية في تمويل الواردات الكلية على مستوى جميع الدول العربية. ويتوقع بعض المراقبين الاقتصاديين أن يستمر العجز في معظم السلع الغذائية في الوطن العربي بما فيها البقوليات، التي يبدو أن فائض الوطن العربي منها هو فائض وهمي، لأن قسماً كبيراً منها ينتج في بعض أقطار الوطن العربي، في حين تقع الدول المتبقية في حال عجز.
ومواردنا المائية ليست بأحسن حالا! ففي الوقت الذي تعاني فيه بعض الدول العربية ندرة واضحة وكبيرة في مواردها المائية، وتسلم بعضها جزئيا من هذه المشكلة، إلا أن جميع الدول العربية تعاني بشكل أو بآخر مشكلات إدارية وزراعية عديدة، أسهمت في تدهور وضعها الزراعي وتحولها إلى دول مستوردة لسلع غذائية أساسية.
وهذا الوضع يعرض دولنا العربية لمخاطر سياسية وضغوط أجنبية تؤثر في استقلال قرارنا السياسي ويتصادم مع مصالحنا القومية العليا. وقد لاحظنا اليوم كيف أصبحت دول الشمال الصناعية الثرية تسعى للضغط على دول الجنوب خاصة الفقيرة منها لإمدادها باحتياجاتها من المحاصيل حتى لو على حساب مصالحها القومية. وما نشاهده اليوم في ماليزيا وإندونيسيا من إزالة محمومة للغابات وزراعة أشجار زيت النخيل هو تلبية لرغبات الدول الثرية. بل لقد وصل النفاق الغربي إلى حد امتناع الدول الغربية عن وقف الإعانات الزراعية وهي سياسة تعارض مبدأ حرية التجارة التي قامت منظمة التجارة الدولية من أجلها. فالدول الغربية تدفع اليوم نحو مليار دولار يوميا دعما للمزارعين الذين دائما ما يدّعون أن دورهم استراتيجي، وأن صناعة الغذاء هي من قبيل حماية الأمن القومي.
إن التحديات التي تواجه أمننا الغذائي والمائي تستلزم منا تبني استراتيجية غذائية ومائية ملزمة وجادة. على أن تأخذ هذه الاستراتيجية في الاعتبار الأسباب التي تقف وراء تخلف مساهمة قطاعاتنا الزراعية. ولعل من أهم هذه الأسباب: محدودية المياه المتاحة للاستخدامات المختلفة بما فيها الري، وازدياد ملوحة التربة والمياه الجوفية بسبب الاستنزاف الجائر للموارد المائية، وتدهور خصوبة التربة بسبب الزراعة والرعي الجائر، وتواضع الدعم المقدم إلى المزارعين، ومعاناة المزارعين من الأسعار غير المجزية لبعض المنتجات الزراعية، وارتفاع تكاليف مستلزمات الإنتاج، ووجود بعض الضرائب المباشرة وغير المباشرة على النشاط الزراعي في بعض البلاد العربية، وانخفاض مستوى المكننة الزراعية، واستمرار وجود الآفات الزراعية، وعدم توافر التقاوي والبذور المحسنة والمبيدات بالشكل الكافي، فضلا عن ضعف البنيات التحتية الخدمية والخدمات التسويقية اللازمة للنشاط الزراعي.

علينا تبني استراتيجيات جديدة تولي قطاعنا الزراعي ما يستحق من اهتمام من أجل ضمان سلامة أمننا الغذائي والمائي. ومن المهم أن تتضمن هذه الاستراتيجية برامج زمنية متتابعة ومترابطة من أجل بلوغ أهداف محددة على نحو تدريجي ولكن يجب أن يكون تدرجا مستمرا ومتصاعدا. وفي تصوري أن هذه الاستراتيجية يجب أن تأخذ في الاعتبار السياسات التالية:
- وضع برامج علمية مدروسة للاستفادة من مصادر المياه وتنميتها.
- زيادة الاستثمارات الحكومية والخاصة في مشاريع التنمية الزراعية.
- الاهتمام بإنتاج المواد الغذائية الأساسية وخاصة الحبوب.
- تأمين مخزون استراتيجي سواء من الإنتاج المحلي أو المستورد.
- استخدام أساليب التقنية الحديثة في أنظمة الري والصرف ومكننة الزراعة.
- توفير وسائل تمويل حديثة ومتطورة للمشاريع الزراعية كالصناديق الزراعية.
- تشجيع المشاريع المشتركة الخاصة مع مختلف الدول الزراعية.
إن تطوير القدرة الزراعية الذاتية ليس أمرا مستحيلا، الأمر يحتاج إلى تبني رؤية واضحة والتحلي بعزيمة ماضية والتسلح بإدارة صائبة لاستغلال إمكاناتنا وقدراتنا ومواردنا من أجل ضمان تحقيق أمننا الغذائي والمائي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي