أسواقنا وأسواق أمريكا .. إلى أين؟
السبب الأساسي للأزمة المالية العالمية يُعزى إلى تفشي ظاهرة التقليل من شأن المخاطر على نطاق واسع، وكان من تجليات هذا الوضع الخطير التقليل من سعر وحدة الخطر وكذلك من مقدار الخطر, أوجدت بيئة مالية حتى منتصف عام 2007 نموذج صيرفة يقوم على مبدأ إصدار مكثف للمشتقات المالية وتوزيعها بشكل أسرع على أكبر عدد ممكن وعلى نطاق أوسع, على أمل أن الانتشار الواسع للمخاطر والتقليل من شأنها يمكن أن يجنب انعكاساتها مع تحقيق أرباح سريعة وعالية جدا.
ومنذ أن دمر ريتشارد نيكسون نظام بريتون وودز المالي الدولي عام 1971 عند إقفال نافذة الذهب في وزارة الخزانة الأمريكية قطع آخر ارتباط بين الدولار والذهب, تبع ذلك انتشار هائل لأدوات الائتمان في عملة دون أساس أبرزها نمو المشتقات المالية غير الخاضعة للضوابط لتنتفخ وتصبح 600 تريليون دولار، وارتفعت نسبة الائتمان الإجمالي في الولايات المتحدة مقابل الناتج المحلي الإجمالي من 150 في المائة عام 1969 إلى 350 في المائة عام 2007 غمر معيار الدولار العالم بأموال مشكوك في مصادرها Funny money انتشر على أثرها عدم الاستقرار الاقتصادي حول العالم.
الدرس الذي ينبغي تعلمه من هذه الكارثة هو أن رأسمالية (السوق الحرة) في نظام النقود الائتمانية لا تنتج المزايا نفسها (الانتعاش المستدام) التي تنتج عن رأسمالية الأسواق الحرة الحقيقية ضمن نظام نقدي عالمي جديد قائم على قاعدة جديدة مرتكزة على الأموال السليمة والتجارة المتوازنة.
وهذا يعني نهاية أنموذج عمل الوسيط – الوكيل القديم بأسلوبه الجريء والمغامر – فحقبة المديونية ستنتهي لأن أحد العوامل الرئيسة في السنوات الأخيرة التي ميزت الوسطاء هو أنهم لم يواجهوا قوانين المديونية الحازمة التي كانت تطبقها البنوك التجارية الأمريكية، فالبنوك التجارية كانت مجبرة على المحافظة على أن تشكل الأسهم الملموسة نسبة 5 في المائة أو أكثر من الموجودات بينما كان الوسطاء يعملون بنسبة أسهم أقل نتج عن ذلك ارتفاع المديونية لديهم إلى أكثر من 30 ضعفا من قيمة الموجودات، الأمر الذي زاد من أرباحهم بشكل هائل, وهو سبب حصول المديرين التنفيذيين على مبالغ خيالية جدا نتيجة ممارستهم تلك العمليات ذات العوائد الفلكية وهي تختلف عن تلك العوائد عن الإعمال الإنتاجية الحقيقية التي تدر أرباحا نتيجة الاستحواذات الجديدة والتوسع في العمليات في أنحاء العالم.
#2#
وإذا ما أرادت الحكومة الأمريكية إجبار الوسطاء على تصحيح أوضاعهم فلكي يخفضوا نسبة الديون من 30 ضعفا إلى 20 ضعفا فإنهم مجبرون على بيع ستة تريليونات دولار وهي فقاعة انفجرت نتج عنها هبوط في أسعار الأسهم، ولم يقتصر هذا الوضع على الوسطاء بل امتد إلى صناديق التحوط, وهي غير خاضعة للنظم, فلا يمكنها الإفصاح عن هوية مستثمريها رغم هذا اتجهت إليها مؤسسات من صناديق معاشات وأوقاف وما شابهها بعد أن أخفقت بورصة ناسداك في مطلع القرن، وازدهرت صناديق التحوط مع انهيار أسهم التكنولوجيا، ما أدى بهؤلاء المستثمرين إلى الاعتقاد بأنها ستستمر كذلك في المستقبل, لكن هنري بولسون وزير الخزانة الأمريكي مارس ضغوطا على لجنة الأوراق المالية والبورصة وعلى صناديق التحوط كي تفرض حظرا مؤقتا على إجراءات البيع على المكشوف للأسهم المالية في أيلول (سبتمبر) الماضي. لأن البيع على المكشوف يسمح للمستثمر بتحقيق ربح عندما يتراجع سعر السهم مما يجعل التجار يستغلون هذا الإجراء في خفض أسعار الأسهم الخاصة بشركاتهم بصورة بالغة.
أما في منطقة الخليج فإن الأنظمة المالية تحظر التعامل بالمراهنات على هبوط أسعار الأسهم لكن المستثمرين يقومون بالمراهنة من خلال حسابات الأفشور مع البنوك الدولية التي تمتلك مجاميع كبيرة من الأسهم تكفي لإقراض الأسهم لمن يريد المراهنة عليها. ويقدر بعض المحللين أن عددا كبيرا يصل إلى 40 في المائة من التعاملات في أسهم شركات الخليج التي تتم عبر شركات الوساطة المالية الدولية إنما تتم على شكل المراهنة على هبوط أسعار الأسهم مما شكل صدمة للمستثمرين والشركات في منطقة الخليج لأنهم ليسوا معتادين هذا الأسلوب في التعامل بسبب افتقار أسواق الأسهم الخليجية إلى مستثمرين مؤسسين يعملون على الأجل الطويل، والمتتبع للسوق السعودي يلاحظ أن شركة المراعي نسبة التغير السنوي فيها لا تتجاوز 1 في المائة سلبا حافظت على سعرها البالغ 118 ريالا للسهم، وكذلك سهم "جرير" بتغير سنوي لا يتجاوز 6 في المائة سلبا وحافظت على سعر 146 ريالا، وكذلك سهم "الخزف" بتغير سنوي 14 في المائة سلبا بقيمة سعرية 93 ريالا، بينما بقية الأسهم انخفضت انخفاضا شديدا وصل في بعض الشركات إلى 89 في المائة من قيمة سعر السهم سلبا، فـ "سابك" انخفض سعر سهمها بنسبة 72 في المائة ليصل سعر السهم إلى 45 ريالا (29/11/2008) مما يدلل على أن الأسهم الثلاثة الأولى لم تنخفض مثل بقية الأسهم نتيجة وجود مستثمرين مؤسسين للاستثمار على الأجل الطويل.
فالسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لا يتبع الأسلوب نفسه في أسهم بقية الشركات؟ صحيح أن شركات سابك والإنماء وكيان شركات ضخمة ولكن يمكن تأسيس صناديق استثمارية ضخمة تقوم بالاستثمار طويل الأجل في هذه الشركات الكبيرة لأن السعر العادل لايمكن تركه للمضاربات غير المنضبطة القائمة على الجشع والاستغلال.
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن تلقي الركبان قبل أن يصلوا السوق, أي شراء بضائعهم بأسعار زهيدة ومن ثم احتكارها وبيعها بأثمان عالية جدا بينما إصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نزولها السوق كي يتحدد السعر من خلال السوق بناء على آليات السوق بحسب كميات العرض والطلب، فعندما يزيد العرض تنخفض الأسعار والسوق يتحكم في العرض, فيتجه المنتجون إلى منتجات أخرى والعكس كذلك عندما يقل العرض فترتفع الأسعار فيتجه المنتجون إلى إنتاج تلك السلعة، فالسوق إذا تركت تصحح نفسها وأبعدت عن المضاربين والجشعين الذين يستغلون أوضاع السوق ويتحكمون في مسيرتها بحسب رغباتهم, أي يتم احتكار السوق من قبل فئة محددة يسيطرون عليها.
فمسؤولية الدولة هي حماية أساسيات السوق كي تسير بشكل تلقائي وطبيعي وفي ظل الظروف الطبيعية السليمة امتنع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تسعر السلع بأسعار محددة وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله هو المسعر وهي دعوة إلى ترسيخ مفاهيم السوق الحرة المنضبطة.
ولكن عندما يتغلب ويسود في السوق الجشع والاستغلال فإن الحاجة ماسة وملحة إلى تدشين محاولات تقييم عادلة لقيم الأسهم وفقا لأساسيات السوق بدلا من اعتماد التاريخ في التقييم ومن تلك المقاييس التي وضعها في الثلاثينيات بنجامين جراهام وهو صاحب نظرية في الاستثمار إلى نسب السعر/ العوائد الدورية، حيث يكون سعر سهم ما مماثلا لمتوسط العوائد لكل سهم تم إنتاجه خلال السنوات العشر السابقة.
تمت إعادة إحياء هذا المقياس من جانب روبرت شيللر عندما نشر كتاب وفرة غير منطقية Irrational Exuberance وحذر في كتابه من تقييم الأسهم بشكل مبالغ على نحو سيئ قبل فترة قصيرة من انفجار فقاعة الأسهم عام 2000، وعززت مؤشراته التي تظهر فقاعة أخرى في سوق الإسكان الأمريكية على وشك أن تتضخم وتنفجر، ووصلت مضاعفات نسبة السعر / العوائد التي وضعها شيللر أقصى حدودها عامي 1929 و2000 أعلى مستويات للسوق تبعتها أسواق المضاربة على الهبوط.
فإن نسبة السعر/ العوائد الدورية تشير الآن إلى أن الأسهم أرخص قليلا من متوسطها طويل الأجل للمرة الأولى منذ عام 1991 الأمر المختلف في هذه الفكرة هو النظر إلى الاتجاهات التي تجري لفترة طويلة للغاية.
ومثلما هي الحال مع نموذج دورة نسبة السعر / العوائد, فإن ذلك يشير إلى أن أسواق الأسهم تم تقييمها بشكل مبالغ منذ عام 1991. فإن كلا من هذين المقياسين يتسقان مع هبوط الأسهم بشكل أدنى قبل أن تجد مستقرا لها رغم أنها مسعرة بشكل عادل حاليا.
هناك مقياس آخر أشار إلى ارتفاعات وانخفاضات الأسواق على مر السنوات والمعروف بحرف Q ويشير الحرف إلى نسبة قيمة شركة ما إلى صافي قيمتها – قيمة الأسهم في ميزانيتها العمومية.
ويبدو أن الأسهم حاليا قريبة من القيمة العادلة وفقا لمقياس Q.
وهناك مقاييس أخرى لقياس الانكماش الاقتصادي مثل نموذج باركليز كابيتال وفقا للنموذج فإن السوق يخصم ما نسبته 15 في المائة تراجعا في الناتج الإجمالي المحلي الفعلي للولايات المتحدة في العام المقبل وكانت أسوأ سنة منفردة هي سنة 1932، حيث شهدت انكماشا بلغ 23 في المائة.
نحن نحتاج إلى أن نشجع إقامة صناديق الاستثمار على الاستثمار طويل الأجل لعودة الاستقرار إلى السوق وسيره بشكل طبيعي يتمكن الجميع من الاستثمار فيه بعيدا عن الأرباح الخيالية والمبالغ فيها نتيجة المضاربات أو حدوث خسائر كبيرة جدا، وإنما يسمح للسوق أن يتذبذب ضمن مدى مقبول وفق أساسيات السوق وبذلك يمكن تصميم برنامج كمبيوتري تدخل فيه بيانات الشركات المساهمة كل ثلاثة أشهر متزامنة مع إعلان الشركات إيراداتها وأرباحها كي يعطينا النموذج تقييمات الحد الأدنى والحد الأعلى لكل شركة. بناء على هذا التقييم لا يمكن أن تتداول أسهم كل شركة أقل من التقييم الأدنى وكذلك أعلى من التقييم الأعلى.
وتكون هذه التقييمات ذات مرونة وغير ثابتة تتغير كل ثلاثة أشهر, وبذلك تصبح العوامل الأساسية هي المتحكمة في سير السوق وفي المؤشر العام أيضا بدلا تحكم المضاربة في السوق التي سادت في الفترة الماضية التي ابتزت أموال صغار المساهمين، إضافة إلى إشاعة عوامل أخرى مثل الهلع والتأثر بالمؤثرات الخارجية مثلما هو حاصل اليوم، لأن في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم ـ قال (ليأتي على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أم من حرام؟) صحيح البخاري. وحذرنا القرآن الكريم من الحصول على الأموال بأي طريقة غير شرعية (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) فالمسلم مطالب بالحذر من عدوى انتقال الأموال الساخنة المحرمة أو المشبوهة وغير الخاضعة للضوابط والقوانين والمبادئ الأخلاقية، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال (لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الكذب وتتقارب الأسواق) أي تصبح التسهيلات كبيرة جدا نتيجة تقارب الأسواق وتنتقل عدوى الأموال المحرمة فلا بد من المسلمين أن يكونوا حذرين ويدققوا في الأدوات المالية العالمية كي لا تختلط بالأدوات السليمة.
والآن هي فرصة للمسلمين في المساهمة العالمية لتأسيس نظام مالي عالمي جديد قائم على قواعد وقوانين تضبط الممارسات المالية العالمية المشبوهة كي تحمي اقتصاداتها من الانهيارات المستقبلية، وآن الأوان أن نشارك في تصميم برامج ونماذج جديدة بدلا من التبعية العمياء التي لا تفرق بين الجيد والرديء حتى تتوافق مع المبادئ والأخلاق، لأن تقارب الأسواق, كما جاء في الحديث, مثلما تحمل فوائد فإنها تحمل أيضا مضار وتحذيرنا من هذه المضار لأنها تنعكس على صغار المستثمرين وتكرس لدولة الأغنياء فقط.
كما لابد أن تفكر الدولة وتدرس مدى إمكانية مشاركة القروض في الأرباح والخسائر بدلا من الفوائد كي تتجنب البنوك الإقراض بمبالغ كبيرة، أو على الأقل منعها من تسييل المحافظ عند هبوط أسعار الأسهم كي لا تشكل ضغطا هائلا على سوق الأسهم لتفادي الانهيارات المفاجئة الناتجة عن البيع الجماعي نتيجة الهلع.
نحن هنا نبحث عن تصميم طرق تكفل تعزيز النظام المالي على نحو مستدام، وأخذ العبرة والدروس من الانهيارات المتوالية وعدم استقرار الأسواق بسبب أن الأنظمة الحديثة أظهرت ميلا نحو تفضيل الأدوات والوسطاء الذين يعدون بتحقيق عوائد كبيرة في مدى قصير، وتؤدي هذه العمليات إلى اتباع سلوك القطيع الذي يصبح فيه ضوابط الخطر بسهولة موضوعا ثانويا نتيجة وضع كامل الثقة بقدرة وكالات التصنيف على تقدير المخاطر التي تنطوي عليها الأدوات الجديدة نتيجة التعقيد التام للمنتجات المالية المهيكلة التي لا يستطيع حتى عتاة المستثمرين أن يقيموها بالشكل المناسب لأنهم كانوا يعتقدون أن توزيع المخاطر على نطاق واسع يعتبر أحد عوامل الاستقرار على مستوى النظام. بينما حدث العكس ونتج عنه فقدان عالمي للثقة بسبب لجوء مصارف الاستثمار بما لديها من صناديق خاصة تشاركها صناديق التحوط إلى خلط تلك الأدوات مع أدوات أخرى خاصة بها، وتبادلتها فيما بينها، ولم يعد أحد الآن يعرف من يملك ماذا وما حجم الكمية، بل حتى أسماء كبيرة أبرمت عقودا ببلايين الدولارات بحيث بات سوق القروض المؤمنة في ورطة وبحسب خبراء تصل القيمة المدهشة لهذا السوق إلى 54 تريليون دولار تقارب الناتج المحلي العالمي، حتى إن صناديق التحوط التي تعد الملاذ الآمن عند حدوث الأزمات اشتركت هي نفسها في الأزمة وهي تدير ستة تريليونات دولار استثمرت في سندات مسمومة, أقفلت 600 من هذه الصناديق منذ مطلع العام والآن يريد المستثمرون تسييل محافظ تامين بنحو 600 مليار دولار بعد مدة الأخطار المقدرة بثلاثة أشهر ما قد يتسبب في انهيارات في البورصات, ويشهد إقفال صناديق جديدة.
فالمستثمرون يعتمدون سياسة الخوف عندما يكون الآخرون جشعين، ويكونون جشعين عندما يكون الآخرون خائفين، بينما الجميع الآن هم خائفون.
فتقييم الأسهم لا يختلف عن تقييم سندات الخزانة الأمريكية التي تضمن الدين والمستثمرين على استعداد للدفع أكثر مقابل ذلك الأمان، وفي أسوا فترات الفزع الأخيرة وصلت العوائد على سندات الخزانة 0.02 في المائة وهو أدنى مستوى لها منذ عام 1940.
لكن السؤال عن مدى استعداد المستثمرين في الخيارات على الدفع للحماية ضد الهبوط المستقبلي لأنهم هم المستفيدون من ذلك الهبوط والخاسرون الوحيدون هم صغار المساهمين الذين يسيرون وراء الشائعات أو وراء مجرى السوق خوفا من الخسارة أو لأنهم لا يمتلكون أموالا ضخمة تمكنهم من التعامل مع السوق؟