من الكساد العظيم .. إلى الكساد الأعظم !
قبل عشر سنوات، توقع الدكتور أيجور بانارين عميد كلية العلاقات الدولية في الأكاديمية الدبلوماسية التابعة لوزارة الخارجية الروسية، حدوث أزمة اقتصادية كبيرة تحل بالولايات الأمريكية، وإنها قد تؤدي فيما بعد إلى حرب أهلية وإلى تفكك الولايات في مرحلة لاحقة. وقد بدت تنبؤاته حينها ضربا من ضروب الخيال، غير أن بعضها غدا يتحقق الآن. أما في أمريكا فإن جيرالد كلينت Gerald Celente، الذي يدير معهدا متخصصا في بحوث الاتجاهات الاقتصادية، وينظر إليه كواحد من أشهر المشتغلين بالتوقعات الاقتصادية، توقع ما هو أسوأ من ذلك بكثير، لكنني سأرجئ الكلام عن توقعاته للأسبوع المقبل.
تاريخيا، عرف العالم نحوا من 255 حالة ركود اقتصادي منذ عام 1870م وحتى الوقت الراهن. وقد تفاوتت هذه الحالات من حيث حدتها وطول بقائها. بيد أن أشهر هذه الأزمات وأكثرها حدة في القرن الـ 20 كانت تلك التي جرت عام 1929م. ومع ذلك فإن أزمة عام 2008م ستكون الأعظم من بينهم.
لا أحد يحب التشاؤم أو أن يكون من زمرة المتشائمين، لكن الحكمة تقتضي عدم تجاهل الواقع أو التغافل عن المخاطر والاستعداد للأسوأ. الحقيقة أن صورة المشهد الاقتصادي العالمي تبدو قاتمة جدا، والمؤشرات تدل على أن ما جرى حتى الآن هو مجرد بداية لما هو أعنف. والمشكلة في تقلبات هذه الدورات الاقتصادية أنه متى ما بدأت دورة فإن بعضها يغذي بعضا. فإذا ساد اعتقاد بين الأفراد ورجال الأعمال بوجود ركود جاءت تصرفاتهم لتعزز من هذا الاتجاه، ولذلك كان دور الحكومات مهما في إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد، عن طريق زيادة الإنفاق الحكومي وتقليص الضرائب من أجل تحريك الطلب المنكمش، فإذا انتعش الطلب عادت الثقة للأفراد ورجال الأعمال وارتفع طلبهم الاستهلاكي والاستثماري. وهذا هو ما تحاول كثير من حكومات العالم فعله اليوم من خلال تبني سياسات مالية حكومية توسعية.
بدأت هذه الاضطرابات من الولايات المتحدة التي يتوقع أن تشهد فترة اقتصادية قادمة عصيبة قد تتطور إلى قلاقل اجتماعية وأمنية. وبينما يعتقد المتفائلون من المراقبين أنه أصبح لدى الأمريكان فهم ومعرفة أفضل لما يجب فعله لعلاج الأزمة الراهنة مقارنة بتجربة كساد عام 1929م، إلا أن التعقيدات الراهنة وشيخوخة الاقتصاد الأمريكي، وتراجع قدرته التنافسية، وتدهور إنتاجيته، واتساع العجز في ميزان المدفوعات، وتعاظم الدين الحكومي (لأسباب منها زيادة النفقات العسكرية لحروب أمريكا الخارجية)، كل هذه العوامل تجعل من كل خبرة سابقة لمواجهة الكساد الحالي محدودة الأثر. فقد أضحى الاقتصاد الأمريكي يعاني اختلالات في هيكل الاقتصاد (انظر لتدهور كفاءة صناعة السيارات)، ومن قصور في صلب النظام الاقتصادي ( المبالغة في الحريات وغياب الضوابط تنتج أشخاص من أمثال برنارد مادوف)، الأمر الذي يتطلب إصلاحات عميقة وقرارات جريئة قد تستغرق وقتا من الزمن.
الفارق بين الكسادين كبير، ففي أزمة عام 1929 لم يكن هناك اعتماد كبير على الديون في تدبير معاش الناس وتصريف معاملات المؤسسات كما هو الحال اليوم. وفي ذلك الزمان لم يعرف الناس المشتقات المالية ولا صناديق التحوط ولا بطاقات الائتمان. أما اليوم فقد أدت المشتقات إلى تعظيم الديون والمبالغة في عمليات تصكيكها وتنظيمها وتصنيفها من أجل إعادة بيعها في ظل بيئة تنظيمية ضعيفة ورقابة شبه معدومة باسم حرية الأسواق. وكذا الأمر بالنسبة لصناديق التحوط فإن وضعها لا يقل سوءا، فهي تعاني الآن موجة ضخمة من حالات طلبات استرداد الأموال، وتواجه اليوم ضغوطا لإخضاعها لرقابة أكبر.
أما بطاقات الائتمان فلم تعد تصدرها البنوك فقط بل لحقتها المؤسسات التجارية الكبرى منذ عقود حتى انتشرت بين الناس انتشارا عظيما. وهكذا أصبحت جميع المعاملات في المجتمع الأمريكي قائمة على جبل ضخم من الديون الشخصية، هذا فضلا عن الديون التجارية والحكومية التي تعاظمت هي الأخرى لمستويات قياسية. وغدا الأمريكان ينفقون أكثر مما يكسبون، ويقترضون أكثر مما يستطيعون. وأصبح الأفراد يمولون احتياجاتهم بالدين بدأ من شراء المنازل والسيارات والمجوهرات، وسائر الأجهزة المنزلية المعمرة، إلى تمويل العطلات، وتسديد أقساط التعليم، حتى وصل الأمر لتمويل شراء الملابس ودفع ثمن المواد الغذائية في البقالات وشراء النفط لسياراتهم، كل ذلك بالدين.
هذا التوسع الهائل الذي جرى في حجم وأسلوب التمويل يقتضى التزاما بقواعد العمل المصرفي والمالي، بيد أنه تم اختراق هذه القواعد وجرى تلاعب كبير فيها من قبل كبار المتعاملين والمتصرفين في النظام المالي الدولي، ما أدى لهذه الكارثة المدمرة للحياة الاقتصادية. وبالطبع لن يقتصر الدمار على القطاع المالي بل تعداه ليصل الآن إلى القطاع الحقيقي في الاقتصاد في تتابع يشبه سقوط أحجار الدومينو المستند بعضها على بعض. إلى أين سيصل الوضع بالاقتصاد الأمريكي؟ لنر ما يقوله جيرالد كلينت عندما نواصل الحديث الأسبوع المقبل، بحول الله وقوته.