محوى الأخدام .. (2) انتقام اللون
لا يرافع علي المقري عن (الأخدام) بفجاجة خطاب سياسي محض، بل يطعّم لغته بجرعات اجتماعية ذات نفحة عاطفية، فيما يحتوي شخصياته وسرده داخل حاضن إنساني، وإن كانت روايته تأخذ أحياناً شكل العريضة الحقوقية، وتكاد تطمس دوره كسارد، فهو من موقعه كشاهد يبدي كثيرا من التعاطف مع قضيتهم الأزلية، ويحاول كروائي استثمار غضبتهم الطبقية وتعاساتهم اليومية من خلال، التذكير بالنعرات الاجتماعية والدينية، إضافة إلى القهر السياسي الموجّه ضدهم، فعندما تقدم (سرور) لإمامة المصلين تمت تنحيته على إيقاع عبارة جارحة "أعوذ بالله آخر الزمان يؤم بنا خادم" وعلى إثر تلك الحادثة تتوالى العبارات التبخيسية داخل السرد، المحقونة بوحدات كلامية جاهزة مستلة من قاموس التخاطب الاجتماعي، مهمتها الإبقاء على دونية (الأخدام) في السلم الاجتماعي "من صاحب الخادم أصبح نادم" والتبرؤ منه حتى على مستوى الطهر الديني "اغسل بعد الكلب واكسر بعد الخادم".
ولا يكتفي بفضح مضطهديهم، بل يذهب إلى إقامة شاهد قبر عريض يتسع لأسماء كل الذين قضوا من (المحوى) نتيجة ظلم أو إهمال، حيث توفي (عائش) في السجن فور إبلاغه بتاريخ تنفيذ حكم إعدامه، كما تم رجم (بنت المزين) نتيجة حملها سفاحاً من طفل كانت ترعاه. وفيما ماتت ابنة العاشرة (كاذية بنت المسفوح) في عشتها بعد سعال دام لأشهر، مات الطفل الذي لم يتجاوز الثامنة (ابن شموس) بعد أن بقي يبول دماً لمدة أسبوعين، مثله مثل الطفل (عبده عيشة) الذي فجع المحوى كله بوفاته المحزنة، فقررت أمه أن تحبل في وقت قياسي وكأنها تقاوم - بوعي أو لا وعي - انقراض سلالة (الأخدام) والاحتجاج على منطق الجنائز المتنقلة ببهجات الميلاد. أما من ينجو من الموت فقدره لا يقل مأساوية، حيث يتعرض (علّوش) السجين الذي لم يتعد العاشرة من عمره للاعتداء الجنسي، وهكذا تزدحم الرواية بمشاهد الموت اليومي العبثي، وانتهاك كرامة أبناء المحوى سجناً وتشريداً، المنذورين لمهمات مهنية وخدمية مذلّة، تتأفف بقية الشرائح والطبقات الاجتماعية عن أدائها.
حتى الحب يمكن أن يموت إذا ما فكر أحد سكان "محوى الزين" بمغادرته، إذ لا أمان مع (الآخر) فالمجتمع يعيش حالة نفاقية جارحة، ولا سبيل للتخفيف من فكرته المتأصلة حول التمايز الطبقي، أما السلطة فمتجبّرة ولا حد لقهرها، وهو المآل الذي تحدثت عنه (الدغلو)، حيث تم انتهاكها جسداً وروحاً، بواسطة ضباط من الشرطة، كما روته بعبارات حزينة وهي تؤوب منكسرة إلى محواها بحثاً عن الأمان. وربما لهذا السبب بالتحديد تعمّد إبراز خطابهم اللغوي الذي يختزن رغبتهم في الوجود، وربما بالغ في الاتكاء عليه، بما هو المدخل لوعي طبيعة حياة هذه الفئة البشرية، والتوغل بشفافية داخل عوالمهم، حيث القاموس الجنسي الفاضح، والمفردات السافرة، فهذه الكائنات لا يبدو أنها تمتلك وراء خبراتها اللغوية الفجة ما يسترها ملبساً، ولا ما يأويها مسكناً، فكل يومياتهم وحميمياتهم مكشوفة، أو هكذا يبدو تقديم الشخصيات ككائنات قدرية، على درجة من العري النفسي والجسدي، حيث الاستيقاظ في الصباح على "خرير بول عيشة" فذلك هو واقع تلك الذوات المقهورة، الممرغة في الوحل، دون رتوش ولا تزييف، الأمر الذي يفسر انحياد السرد إلى ما يمكن اعتباره (انتقام اللون)، حيث عبارات الاعتداد بالسواد تتكرر بخطابية مفرطة على لسان أغلب الشخصيات، كما عبرت عن ذلك (بهجة) بنبرة إباء لا تخلو من حس انكسار مستبطن "نشتي من يحترمنا كما نحن. يحترم ثقافتنا. يحترم لوننا. طعمنا الأسود. رائحتنا السوداء".
ويبدو أن طقس العتمة ذاك قد تم اختراقه ببصيص من الضوء، فمن بين ركام (المحوى) كانت تتبرعم حكايات حب، إذ لا يخلو من البهجة والجاذبية المصممة بمزاج الفقراء، كما تفصح عن ذلك استراتيجية النص، حيث قدم علي المقري نموذجاً أنثوياً مغوياً تمثّل في شخصية (شمعة)، التي أعطاها (الحرتوش) فرصة اختبار لذتها مع آخرين، فيما يبدو اتكاء قصدياً على السواد كمكوّن عرقي، أريد معادلته بالفعل الجنسي، الذي تم توظيفه كمضاد وجودي للموت، ففعل الحب الذي انكتبت على خلفيته حكاية (عبد الرحمن) الذي نسي اسمه مع مرور الوقت وصار لقبه المستعار (أمبو) مع رمزية المحوى (الدغلو) لا يتم في الخفاء، بل بدراية الجميع، حيث يستمتع كل أبناء (المحوى) بالإفصاح عن وجعهم المشترك، ومشاعية الألم واللذة، أو تلك هي طريقتهم للإمتاع والاستمتاع، كما اختصرت (عيشة) حس التفرج السافر ذاك في عباراتها التحريضية لأمبو ناحية جسد الدغلو "إبزي من صاحبتك اللي اسمها". وكأنها ترفع لافتة وإرادة الحياة مقابل شبح الموت، في حين كان المغني (العصفور) يعزف على المزمار لحن خلود (المحوى) فيما يضبط أخوه (الزناط) إيقاع البهجة الناقصة على الطبلة، وتصاحبهما زوجته (نهود) وابنته (فارعة) بالغناء والرقص.
www.m-alabbas.com
[email protected]