ماذا نحتاج بعد الميزانية؟
أما وقد أعلنت موازنة الدولة، بأرقام إيجابية وبنظرة تفاؤلية تؤكد عزم الدولة على تبني سياسة مالية توسعية على الرغم من التراجع الحاد في أسعار النفط، فقد غدا مهما بالنظر إلى استمرار التحديات الاقتصادية التي يفرضها نمو السكان، واستمرار تقلب أسعار النفط، أن نطمئن على مدى نجاح هذه الموازنات في بلوغ الأهداف الاقتصادية التي يصبو إليها المجتمع ويتطلع إليها المواطنون. إن العمل الأصعب يبدأ بعد اعتماد الميزانية. إن نجاح دول صغيرة في الإدارة الاقتصادية الفذة يعطينا بارقة أمل قوية في أن النجاح لا يقتصر على الدول الكبار فقط. فبجانب المال، نحن في حاجة إلى أنظمة مشجعة، وأساليب إدارية متطورة، وأفكار جديدة محفزة.
لقد تبدلت اهتمامات الناس، وتغيرت تطلعاتهم، وزاد وعيهم، فلم يعد يهمهم كثيرا ضخامة الأرقام أو نوع السياسة المالية بقدر ما يهمهم تأثير هذه الاعتمادات والسياسات في نهاية المطاف في مستوى معاشهم. فالاعتمادات والمشاريع التي لا تسهم في تقديم حل استراتيجي دائم للاختناقات المتأزمة التي يعانونها في قطاعات الإسكان والتعليم والصحة، وتلك التي لا تولد فرص عمل جديدة للمواطنين، وإنما تولد فرصا تستفيد منها شركات وأيد عاملة أجنبية، لن تهمهم كثيرا.
التنمية لم تكن يوما مجرد زيادات كمية في مخصصات الإنفاق العام، بقدر ما هي أيضا إدارة ونظام. إننا نعلم أن معدلات النمو الإيجابية في القطاع غير النفطي، ما كانت لتكون لولا نمو القطاع النفطي ذاته! وسيظل الحال كذلك ما لم يتغير هيكل اقتصادنا وطبيعته من اقتصاد ريعي يعتمد على استخراج وتصدير الثروات الطبيعية إلى اقتصاد إنتاجي قادر على توليد قيم مضافة إلى هذه الثروات.
كنت قد كتبت قبل عامين متمنيا أن نستهدف مجالا أو اثنين ونعطيهما أقصى تركيز واهتمام نوعي يتعدى مجرد الزيادة التقليدية في الاعتمادات المالية. كأن نركز مثلا على قطاعي التعليم والخدمات. ففيما يتعلق بالتعليم علينا تبني خطة شبيهة مثلا بخطة كوريا التعليميةK-12 . واليوم يحدونا الأمل أن يضطلع بهذا الدور المحوري، برنامج "تطوير" التعليمي الذي يحظى برعاية ملكية شخصية من لدن خادم الحرمين الشريفين ـ أعزه الله.
ويمكن أيضا أن نوجه عناية خاصة وجهودا نوعية لقطاع الخدمات بمفهومه الواسع ليكتسب مع مرور الوقت ميزة نسبية تسمح بزيادة مساهمته في الدخل الوطني. كخدمات الحج والعمرة، والخدمات المصرفية والمالية، وخدمات التأمين، وخدمات السياحة الصحية. وهي قطاعات يمكن أن تكون أكثر جذبا لقوى العمل الوطنية الجديدة في السنوات المقبلة، وتستفيد في الوقت ذاته من ميزة اتساع السوق السعودية في المنطقة.
ستنجح الموازنات السنوية في تحقيق الأهداف الاقتصادية الكلية عندما تكون هذه الموازنات ترجمة سنوية لخطط تنموية مدروسة. ولن ننجح في بلوغ ذلك، إلا من خلال امتلاك رؤى واضحة وعزائم ماضية تسعى بلا كلل للوصول بالبلاد إلى ما نرغب أن يكون عليه اقتصادنا، من خلال دعم ذلك بأساليب إدارية حديثة، ومظلة قانونية مشجعة، توفر بيئة صالحة لتبني الاستثمارات النافعة المولدة لفرص العمل أمام الناس، وتشجع قيام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، التي تضمن توسيع مساهمة الطبقة المتوسطة في المجتمع، التي تعد قوام أي مجتمع وتؤدي فيه دورا حاسما في ديمومة وحيوية الاقتصاد الوطني. هذه الطبقة التي نخشى أن تكون قد أخذت في التآكل والتراجع في الفترة الأخيرة.
إننا أمام مفترق طرق، وعلينا النهوض ببلدنا، والخيار في أيدينا، والتاريخ ينتظرنا ليحكم لنا أو علينا.