كيف تعرف الفيلسوف؟

هناك من يستحق أعظم الألقاب وهي قليلة عليه ومنهم أبو حامد الغزالي فهو سمي بحق (حجة الإسلام) فهو كتب في حياته 280 كتاباً يتعجب الإنسان من قدرة الإنجاز مع أنه اعتزل الكتابة عشر سنوات، ولم يخرج بعدها إلا بكتابه المنقذ من الضلال وإحياء علوم الدين، كما أنه مات صغيراً عن 55 عاماً فهو ولد عام 450 هجرية ومات عام 505، وكانت في بدايات الاجتياح الصليبي للمنطقة. ولكن كما يبدو، فإن هذه ميزة المبدعين العباقرة في قوة الإنجاز فيبارك الله لهم في أوقاتهم، والكثيرون يسألونني كيف تجد الوقت لتكتب كل هذا، وعندي من النشاطات والكتابات ما أكتبه لغير هذا المنبر فيكون جوابي إن المشكلة ليست في وجود الوقت بل في الاستفادة منه. وفي كتاب الفلسفة للمبتدئين وهو كتاب كندي جميل باللغة الإنكليزية بحيث يمسح القارئ بسرعة وبشكل ميسر الاتجاهات الفلسفية كلها عبر التاريخ أقول وضعوا صورة كاريكاتور كيف تعرف الفيلسوف؟ هو ذلك الشخص الماشي وهو يقرأ؟ وأحياناً يحصل معي هذا ولا أزعم لنفسي أنني أصبحت تلميذاً للفلاسفة. وأرجع للغزالي فهذا الرجل المبدع مسح الفكر المعاصر له مثل الرادار بحيث عرض لكل المدارس الفكرية والاتجاهات التي كانت تسود عصره، وكانت أربع فرق الباطنية والفلاسفة والمتصوفة وعلماء الكلام. يقول إنه كان يستفيد من الوقت بعد أن ينتهي من تدريس طلابه فعكف ثلاث سنين بحيث مسح الفكر المعاصر له كله. وفي النهاية قام بحركة فكرية يتعجب منها المرء مثل لو أن مفكراً اطلع على الماركسية ثم وضع في النهاية كتاباً ليس لنقضها بل لشرحها بحيث تصبح مرجعاً أكاديمياً لمن يريد الاطلاع على الفكر الشيوعي. قريب من هذا فعل الإمام الغزالي، حينما عرض فكر الفلاسفة تحت كتاب (مقاصد الفلاسفة) وهذه الخطوة تعطينا فكرة أيضاً عن مستوى النضج العقلي، والتمكن من العلوم المعاصرة وعدم الخوف من الجديد، كما يحدث معنا في هذه الأيام. حتى إذا انتهى من هذا العرض قام بهدم البناء على رؤوس أصحابه فكتب (تهافت الفلاسفة). في الواقع ليس من العدل والقوة أن تعرض فكر الخصم هزيلاً مضعَّفاً ثم تقوم بالهجوم عليه، بل يجب عرضه كما يريده صاحبه تماماً. ويقول الغزالي حتى نرد على فكر ما، فيجب أن نطلع عليه ليس كما وصل إليه صاحبه فحسب بل يجب أن نزيد عليه درجة فنتمكن منه لأبعد الحدود بحيث نعرضه كما لو أراد صاحبه عرضه ثم نقوم بإظهار الفساد الذي قام عليه لو كان فاسداً. وفي الواقع، فإن العمل العقلي من هذا الطراز لا نتحلى به اليوم بسبب التشدد والتعصب وعدم النضج العقلي بسبب التردي العقلي العام الذي نعيشه. وشرح المفكر مالك بن نبي الرحلة العقلية للأمام الغزالي وقال عنها لقد بدأ جباراً في خطواته ولكن النهاية التي انتهى إليها ليست بشيء في النهاية الغامضة التي انتهى بها. فهو يقول أمام رحلة الشك وكيف حل تناقضاتها أنها نور قذفه الله في القلب عندما شعر أن طريق التصوف يقوم ليس على الحجج البرهانية بل (السلوك)، وهذا يقوم على تجربة شخصية بحتة، وليس حججا عقلانية يمكن أن يستفيد منها كل أحد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي