الرأي العام وحادثة الحذاء

(هكذا أمسينا محاصرين بين تناقضين متعارضين، تناقض الأنظمة الغربية التي تنصب نفسها حامية لحرية الرأي والتعبير وهي الضاربة بها عرض الحائط كلما كانت حرية التعبير ذاتها تمس مصالحها، وتَناقض الأنظمة العربية التي تدعو إلى استخدام الكلمة والصورة ضمن حدود معقولة وأخلاقية بينما هي عاجزة عن استيعاب المضمون الحقيقي للعقلانية والأخلاق وحرية التعبير). عبارة للكاتب الإسباني إغناطيوس دي تيران لا أعرف لماذا تذكرتها وأنا أتابع التغطية الإعلامية في قنوات مجتمعاتنا العربية عن حادثة (الحذاء المشهورة) لأن في هذه التغطية مؤشرا للتناقض بين المواقف الرسمية والرأي العام لجميع الشعوب العربية, فهذا الحدث بما يحمل من تنفيس حركي للقهر والظلم الذي عبر عنه الصحافي العراقي المثقل بالتدمير المتعدد للعراق اقتصاديا وبشريا وثقافيا وسياسيا وبالطبع أمنيا وكيف تم في سنوات قلائل تدمير هذه الدولة تدميرا شبه كامل.
هذا الحدث قد حقق في ساعات قلائل حسب ماذكرته "واشنطن تايمز" أنه حتى مساء الإثنين التالي لتاريخ الضربة الحذائية, استطاعت إحدى عشرة نسخة من مقطع فيديو يصور الحدث أن تدخل قائمة العشرين فيلما الأكثر مشاهدة على اليوتيوب, كما تحول الموقع إلى منتدى لمعارضي بوش وعلى مستوى أقل للمعبرين عن مشاعر العداء ضد الأمريكيين, حسب ما نقلت "واشنطن تايمز" عن مدير التسويق في شركة تيوب ماغول، التي تتعقب مشاهدة مقاطع الفيديو على اليوتيوب ديفيد بيرتش قوله "لقد نجح الجمهور في تحميل أفلام الحادثة على اليوتيوب بمعدل 209 أفلام في الساعة, وتمت مشاهدة خمسة آلاف نسخة في ذلك التوقيت من قبل. 8145000 مرة. ربما مع نشر المقالة يكون العدد قد تضاعف.
وذكرت أن هذا عدد من المشاهدات يجعل فيلم الحذاء أكثر الأفلام السياسية شعبية على الإطلاق, بما في ذلك أفلام الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوبا ما التي لم تستقطب إلا نصف هذا العدد خلال الشهر الماضي كله.
"هذا غيض من فيض" يقول المدون الجمهوري والاستشاري التكنولوجي ديفيد أوول، مشيرا إلى أن هذا الفيلم هو أفضل مثال يعكس ما يحصل عند الجمع بين (الإنترنت والسياسة والإعلام ).
وأرجع أوول شعبية هذا الفيلم إلى كونه يجمع بين الصورة والدعابة, مؤكدا أن ذلك هو - دون شك - أكثر متعة وحيوية من الاستخدامات المعهودة للإنترنت كوسيلة إخبارية.
"واشنطن تايمز" قالت إن مقاطع الفيديو بدأت تنتشر في اليوتيوب ومواقع أخرى بعيد الحادثة مباشرة واستقطبت آلاف المعلقين، بعضها متعاطف مع بوش وبعضها ينم عن الغضب الشديد والبعض الآخر معاد للأمريكيين. وذكروا أن هذه الحادثة ستلازم الرئيس بوش وهو يغادر البيت الأبيض.
طغى هذا الخبر على الأخبار الدولية في الصحف الفرنسية الصادرة في اليوم التالي، حيث سمته "لوبوان" "محاولة الاغتيال الرمزية"، واعتبرته "ليبراسيون" "مغامرة غير سعيدة"، ورأته "لكسبرس" "نهاية غير متوقعة". أما صحيفة "لوبوان" فذكرت أن الرئيس الأمريكي جورج بوش كان يريد أن يعود إلى العراق مرة أخيرة ليعلن نصرا ما حتى ولو كان نصرا مرا وهشا، ولكنه بدلا من ذلك صار هدفا لمحاولة اغتيال رمزية. وأكدت أن الحادث كان يمكن أن يعتبر شيئا مضحكا لولا أن الحرب العراقية كانت دامية وكارثية، معتقدة أن كثيرا من العراقيين والعرب، بل وغيرهم من البشر ربما كانوا يودون أن يقوموا بالشيء نفسه لو أتيح لهم. وفي هذه التحليلات نجد أن المعرفة بالمعاني التي تحملها الثقافة العربية لرمي الحذاء أو الضرب به يعتبر أكبر شتيمة في العراق، مذكرة بما قام به بعض العراقيين سنة 2003 من ضرب بالنعال لتمثال صدام حسين.
هذه التحليلات من صحف أجنبية تصدرت صور الحادث صفحاتها الأولى, وبالطبع شبكة الإنترنت كانت ساحة أخرى لإبداء الرأي العام العربي والإسلامي مما يوضح أننا أمام مساحات وفضاءات أخرى لا تصلها يد الرقيب الذي نجده في الإعلام العربي بشكل عام, ناهيك عن رسائل الجوال التي تستطيع هيئة الاتصالات في كل دولة عربية تسجيل العدد الهائل من هذه الرسائل التي تداولها الأفراد وتبادلوا فيها ما قيل من الشعر والعبارات مما ينم عن الرأي العام الذي نفهمه أنه مجموعة الأفكار والآراء والمعتقدات المتداولة والمنتشرة بين الناس حول موضوع أو حادثة معينة , قد تبلور في هذا الإجماع على تقبل هذه الحادثة بل اعتبارها نصرا عربيا وإسلاميا !! وهذا ما آلمني أن نجد في قذف حذاء نصرا إسلاميا !!
تزامنت هذه الأخبار والصور المتلاحقة والتعليقات المتعددة مع تقارير بثتها يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع بعض القنوات عن أطفال العراق وكيف أنهم غادروا مقاعد الدراسة وتحولوا إلى القيام بأعمال لا تتفق وأعمارهم من بيع للمياه في الطرقات أو مساعدة أولياء أمورهم في البحث عن لقمة عيش بعضها كان من تجمعات القمائم! تذكرت كيف أن العراق كان الدولة الأولى التي حققت القضاء على الأمية!
والدولة العربية التي لديها النسبة الأعلى من حاملي الدكتوراة والعلماء البارزين في التخصصات النادرة قبل أن يتم اغتيالاتهم علي يد الإسرائيليين أخيرا!
إذا عدنا إلى اعترافات الرئيس بوش شخصيا بأنه أخطأ باعتماده على معلومات خاطئة وقال في مقابلة كانت معه مع شبكة (إي بي سي) في 1/12/2008 "أعتذر عن الخطأ الاستخباراتي الذي قاد إلى حرب العراق، لم أكن مستعدا لتلك الحرب.. أشعر بالأسى والأسف للأزمة الاقتصادية التي ضربت واشنطن في فترة حكمي".وخلال تلك المقابلة قال: "أشد ما أندم عليه، وسأظل أندم عليه، هو فشل الاستخبارات الأمريكية بشأن مدى التهديد الذي مثله الرئيس العراقي الراحل صدام حسين لبلادنا"، واصفا ذلك بأنه "الخطأ الأكبر". وألقى بالمسؤولية على آخرين بقوله: (لقد خاطر الكثير من الناس بسمعتهم وقالوا إن أسلحة الدمار الشامل سبب كاف للإطاحة بنظام صدام الديكتاتوري.. أتمنى لو أن المعلومات الاستخباراتية التي وصلتنا كانت مخالفة). لكن رغم هذا الاعتراف المرير نجده غامر بزيارته الأخيرة للعراق وحدث ما حدث!
ويبدو أن الرئيس بوش يثق بقدراته في تحويل الهزيمة الساحقة التي مني بها في العراق وأفغانستان وعن المصاعب التي كابدتها بلاده خلال فترة حكمه، منها الفيضانات والخسائر الكبيرة في البورصات، ثم الإفلاس الكبير للبنوك والشركات والمؤسسات الكبرى، لكن الضربة القاضية، والعاصفة المدارية كما يقول الأستاذ يوسف الكويليت: (جاءت هذه المرة من محتال استطاع خداع بيوت مال وشركات ومستثمرين محليين وعالميين، والنتيجة استطاع (برنارد مادوف) جمع 50 مليار دولار، وقد تبددت الأحلام وصارت الأزمة تكبر وتذاع، ويدخل صاحبها السجن للتحقيق، وعلى الإيقاع نفسه بدأت ظواهر كشف شكل جديد من التلاعب بأن حكومة الرئيس بوش صرفت ما يقدر 117 مليار دولار، لمشاريع وهمية في العراق، التي لم تر النور في أي بند للبنية الأساسية، أو الخطط الاستراتيجية مثل ما جرى في مشروع (مارشال) في دعم أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ولو قُدر جمع الرقمين لوصلنا إلى 167 ملياراً أي تستطيع بناء القارة الإفريقية اقتصادياً لمدة عقد كامل). رغم هذا يردد الرئيس الأمريكي: "حزنت كثيرا، لكن لم أشعر يوما باليأس والإحباط".
وخلال المقابلة التي كانت معه، اتصلت زوجته لورا لتقول: إن "الأمريكيين يعتقدون أن بوش جعلهم يعيشون في أمان مدة ثماني سنوات رغم ما يحدق بهم.. كثيرون أسمعهم يشكرونه ويثنون على فترة ولايته، وهناك من يتصل بي ويطلب مني أن أبلغه شكرهم".
لا تعليق !!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي