مَن (فرعنك) يا تاجر؟!

طغى فرعون في الأرض واستبد بالناس حتى بلغ به الأمر أن قال للسحرة مندهشاً ومستنكراً إيمانهم بنبي الله موسى - عليه السلام (آمنتم له قبل أن آذن لكم؟).
وكان جوابهم عن هذا السؤال بمثابة الصفعة التي جعلته يفيق من غيبوبته الطويلة ويكتشف أن (اللعبة) انتهت أو أوشكت على ذلك, فهو لم يعتد طوال حياته أن يعصي أمره أحد أو حتى أن يقرر مصيره بمعزل عنه, ومن هنا جاء المثل الشعبي الدارج (قالوا لفرعون مَن فرعنك.. قال: ما لقيت أحد يمنعني)!
تذكرت هذا المثل وأنا أقرأ البيان الذي أصدرته أمس الأول جمعية حماية المستهلك مطالبة فيه تجار الجملة في المملكة، بضرورة خفض أسعار بضائعهم استجابة لما حصل عالمياً من انخفاض عام في أسعار معظم السلع والخدمات, وهذا لعمري نداء لا مستجيب له طالما أن حال المستهلك السعودي مع هؤلاء التجار كحال شعب فرعون معه!
ففي مجتمعنا عندما يرفع التاجر سعر السلعة بالنسبة التي يريد أو يضاعفه خلال أيام معدودة, سيجد حتماً أن هناك إقبالا على سلعته من قبل بعض المواطنين الذين يشترونها ثم يخرجون وهم يولولون ويشتمون الغلاء والتجار وكل شيء بلا استثناء, وعندما تسأل أحدهم عن سبب شرائه تلك السلعة تحديداً دون غيرها مع وجود البديل الأقل سعراً وربما الأفضل جودة سيجيبك بقوله: هذا ما اعتدنا عليه, ولا يمكنك حينها إلا أن تضرب كفاً بكف مردداً: عليه العوض ومنه العوض.
ولأن هذا النمط الاستهلاكي هو السائد لدينا فمن غير المعقول أن يقدّم التاجر (الفرعون) الذي هطلت الأرباح على رأسه من كل حدب وصوب مصلحة المواطن الاقتصادية على مصلحته هو, ولن يجبره شيء على التنازل عن تلك الأرباح إلا مقاطعة الناس له, واستبدالهم بسلعته سلعة بديلة أقل ثمناً ليدخل مجبراً في عملية تنافس مع التاجر الآخر هدفها كسب رضا الناس وهي مسألة تصب في مصلحة جيب المستهلك الغلبان أولاً وأخيراً.
طبعاً قد يعمد بعض التجار إلى عقد اتفاق غير معلن فيما بينهم لتحديد سعر سلعة ما كما يحدث كثيراً وهذا أمر يعد جريمة في حق المستهلك, ولابد من تدخل الجهات الرقابية حينها, أما مطالبة الجهات الرقابية بالتدخل لخفض سعر سلعة ما مع وجود سلع أخرى منافسة لها في السعر والجودة، فهذه مسألة غير منطقية إطلاقاً.
قبل أيام تحدثت مع صديق لطالما لامني ووصفني بـ (الجلدة) بسبب أنني أتبع قاعدة (الأرخص أفضل) خصوصاً مع بعض السلع الغذائية الأساسية كالحليب المجفف, فقد اعتدت منذ سنوات على شراء أي نوع من أنواع الحليب المجفف شريطة أن يقنعني سعره, وأطمئن إلى الدولة المنتج فيها, دون أي اعتبار للماركة وشهرتها, بينما كان صديقي يصر على شراء أحد أنواع الحليب المجفف الذي تنتجه شركة معينة كغالبية جيرانه وأقاربه.
وقد روى لي هذا الصديق كيف أصيب بالفزع عند شيوع خبر احتواء نوع من أنواع الحليب المصنع من قبل الشركة نفسها على مادة (الميلامين), وأنه كان مخطئاً عندما لامني ولم يستجب لنصائحي التي تركزت حول مسألة أن الشركات المعروفة والواثقة من جماهيريتها والإقبال على منتجاتها (ستتفرعن) على المستهلك، ليس في السعر فقط، بل في الاستهتار بجودة المنتج, في الوقت الذي تحرص فيه الشركات الجديدة وغير المشهورة على تقديم منتج أفضل ومنافس بهدف جذب المستهلك لأن هذا المستهلك هو الأقدر على إيقاف عملية (فرعنة) التجار متى ما فهم اللعبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي