مَنْ الذي سيتغير؟

الأحداث التي يمر بها العالم الآن من انهيار مالي بدأت في الولايات المتحدة التي قادت الحرب على الإرهاب منذ أواخر عام 2001 وانتهى بها الأمر إلى هذه الكارثة و لن ينتهي هذا الانهيار عند سواحل نيويورك حيث تمثال الحرية! يستقبل القادمين بحثا عن الحرية, كما كان يقال سابق! ولا ندري هل سيبقى تمثالا لهذه الحرية؟
فما الذي بقي منها بعد غيابها من كل أرض احتلتها الحشود العسكرية الأمريكية حاملين شعار توطين الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ فمات الإنسان تحت وابل القنابل العنقودية الأمريكية واليورانيوم في العراق وأفغانستان. منذ أيام فقط ذكر الخبير الألماني كريستوف هورستل "إن اليورانيوم المستخدم في الأسلحة معدن ذو وزن نوعي ثقيل جداً- ولهذا السبب يتمتع بقدرة كبيرة للغاية على خرق الدروع. ويتساءل عن الغرض من وراء استخدام أسلحة خارقة للدروع في أفغانستان كبلد فقير منكوب يفتقر إلى التحصينات والدروع؟ نحن أمام تفسير وحيد وهو: إذا لم يكن الأمر متعلقاً بالتأثير الخارق للدروع فإنه لا يمكن إلا أن يكون للإبادة الجماعية بصمت التي تمارس يومياً في أفغانستان أمام أعيننا المغمضة بمشاركة فعلية لـ 36 دولة تحتل أرض هذا الشعب".
ويثير استخدام أسلحة اليورانيوم على نطاق واسع من قبل قوات حلف الأطلسي (الناتو) في أفغانستان جدلا أخلاقيا وقانونيا، ليس لكونه أحد الموضوعات المدرجة ضمن جرائم الحرب فحسب, إنما أيضا بسبب المخاطر البيئية والصحية التي تلحق بالبلد المستهدف والمدنيين على السواء.
فما الذي بقي من شعارات لوحت بها الإدارة الأمريكية في مرحلة هيمنتها على العالم سابقا؟ وقد تساءل مثلنا يان روس في مؤلفه: ما الذي سيبقى منا؟ حيث تحدث في هذا الكتاب عن الغرب بحكم انتمائه إليه وانطلاقا من وصف واقعه الراهن كما يعبر عنه العنوان الثاني على غلاف الكتاب "نهاية سيطرة الغرب عالميا". وكما ذكر نبيل شبيب في استعراضه للكتاب أنه عرض تاريخي متعمق وجرد حساب تحليلي حاسم للفترة التي قضاها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في الرئاسة، أثناء عامه الثامن والأخير فيها.
انطلق المؤلف من تفجيرات نيويورك وواشنطن عام 2001، حيث أراد بوش الابن جعلها نقطة انطلاق حقبة جديدة تجعل من مطالع القرن الحادي والعشرين الميلادي بداية "الحرب على الإرهاب" أو "الحرب ضد الإسلام" أو "الهيمنة الأمريكية عالميا"، ولكن لا يصدُق شيء من هذه العناوين على هذه المرحلة, كما يقول المؤلف، فالعنوان الأصح هو "سقوط الغرب".
وفسر المؤلف سياسات صانعي القرار في واشنطن، ومنها حرص كونداليزا رايس على تمثل سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق ترومان، صانع سياسة الأحلاف لحصار الاتحاد السوفياتي، فكما صُنع ضد الشيوعية آنذاك ينبغي أن يصنع الآن ضد الإسلام، بدءا بمصلياته الصغيرة على الأرض الأوروبية حتى مدارس تعليم القرآن في باكستان وإندونيسيا. ولهذا حمل الطرح الغربي لهذه الحرب عنوان
(عداء المسلمين المتطرفين) ، فبات يسأل نفسه "ألم يعد لدينا ما هو أفضل لنقدمه عالميا؟". فالغرب يواجه تحدي الأعداء والمنافسين وتحدي الآخرين الذين يتحركون بسرعة أكبر، ولم يعد يمكن التعامل مع هذا التحدي بالوسائل التقليدية للسياسة الخارجية. والوضع الجديد تجاه الإسلام يختلف اختلافا جذريا عما كان تجاه الشيوعية في الحرب الباردة، وما نشره الغرب من قوات ما بين البلقان وأفغانستان لا يجد سوى العداء والرفض, وبالطبع العمليات التفجيرية المضادة. وهذا وحده يكفي لانتشار الشك في الغرب نفسه حول حقيقة المهمة التي يقول بها عن نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذه الدول التي تم احتلالها .
ويرى بان روس أن عودة الإسلام أصبحت صحوة تاريخية قائمة على الاعتقاد بالنهوض من جديد كما هو الحال مع مناطق حضارية عقائدية أخرى فيقول: (إنه لقرون عديدة هيمن الغرب عالميا، وكان عدوانيا توسعيا أنانيا، وكان تفكك دوله الاستعمارية أول انهيار في مسيرته هذه.. أما الآن فبدأ تيار التطور التاريخي يتحرك في اتجاه معاكس).
ومن تحليله لمؤشرات هذا الانحسار للهيمنة الأمريكية يرى أن الرئيس بوش الابن سيدخل كتب التاريخ كشخصية مأساوية، لأنه فرض الزعامة الأمريكية وهي في أوج قوتها، فأسقطها في الحضيض, حيث وضح أخطاء الحملة الأمريكية الجديدة للهيمنة، وكأني به يؤرخ لنقطة انحراف انهيار هذه الهيمنة بعام 1989, أي تاريخ سقوط المعسكر الشرقي، وليس عام 2001 عقب تفجيرات نيويورك وواشنطن. فالبداية الحقيقية هي في تبسيط كل ما في العالم من أوبئة معقدة وطرح دواء "نشر الديمقراطية" لها، والمؤلف يتبنى أصل هذه الفكرة ويرفض الوسيلة، فنشر الرؤية الحضارية الغربية مطلوب ولكن لا يتحقق في صيغة "إنسانية مسلحة". ورغم أن بوش الابن تحرك لاحقا تطبيقا لنظرية فوكوياما باعتبار "التطرف الإسلامي عقبة جديدة ظهرت على طريق نشر النظام العالمي المتجانس" وفق الرؤية الغربية له. إلا أن هذا المنظر فوكوياما الذي بشر بتوقف التاريخ عند الرأسمالية اعترف منذ شهرين تقريبا أن بعض مفاهيم الرأسمالية سقط مع انهيار كبرى الشركات في "وول ستريت", الذي تسبب في أكبر أكبر أزمة مالية يشهدها العالم منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
وقال: إن إن الولايات المتحدة لن تنعم بوضعها الذي ظلت تتمتع به حتى الآن كقوة مهيمنة على العالم, ذلك أن قدرتها على صياغة الاقتصاد الدولي عبر الاتفاقيات التجارية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ستضعف وستتضاءل معها موارد البلاد المالية, كما أن المفاهيم والنصائح حتى المعونات التي تقدمها للعالم لن تحظى بذلك الترحيب الذي تتلقاه الآن. ولكنه أوضح أن سيطرتها على الأزمة هذه المرة تتوقف على مدى براعتها في إحداث تغييرات جوهرية, كخفض الضرائب مثلا وإن كان لا يراها محفزا للنمو.
لكن يؤكد أن التغيير الأكبر الذي يتعين على الولايات المتحدة إجراؤه يكمن في صعيد السياسة, وأن الاختبار الأخير للنموذج الأمريكي يتمثل في قدرته على إعادة اكتشاف نفسه، ذلك أن النموذج الجيد هو ذلك الذي يملك "المنتَج المناسب" لترويجه قبل كل شيء وإليه تنسب الديمقراطية.
ومضى إلى القول إن الديمقراطية هي أحد العناصر الأساسية في النموذج الأمريكي, ومن ثم فإن الترويج لها عبر الدبلوماسية ودعم منظمات المجتمع المدني والإعلام الحر وغيرها لم يكن أبدا مثار جدل. واعترف بأن هذه الكلمة تعني في إدارة بوش التدخل العسكري وتغيير أنظمة الحكم لتبرير حربه على العراق وأفغانستان.
بالطبع هناك عديد من الذين تنبأوا بهذه النهاية لعصر الهيمنة الأمريكية, منهم وزير المالية الألماني شتاينبروك عندما وصف التدمير الأمريكي للنظام المالي العالمي وحملها مسؤوليته وقال: "العالم بعد الأزمة لن يكون كما كان قبلها"، مشيرا إلى فقدان الولايات المتحدة صفتها كقوة خارقة في النظام المالي العالمي. أيضا المرشح الديمقراطي للرئاسة الأمريكية لعام 2004 ، ليندن لاروش, هو أحد كبار المفكرين السياسيين والاقتصاديين, وهو الوحيد الذي طالب برفع الحصار عن العراق قبل احتلالها
الأخير، توقع انهيار النظام الاقتصادي العالمي خلال فترة قصيرة جدا، إذا لم يتم عكس السياسات الراهنة، والقضاء على جميع أنواع الربا، والمضاربات على العملات، والأوراق المالية التي حولت الاقتصاد العالمي إلى نادي قمار، وأصبحت كالسرطان تعيش على الاقتصاد الحقيقي.
قبل نهاية الحرب الباردة وانهيار المنظومة الشيوعية، نشر المؤرخ البريطاني/الأمريكي، بول كينيدي، كتابه "صعود وسقوط القوى الكبرى"، الذي مثل محاولة جديدة لقراءة القانون الحاكم لبقاء الإمبراطوريات وانحدارها، وقد استنتج كينيدي أن هذه القوى تأخذ في الانحطاط عندما يصبح عبء توسعها ومسؤولياته أكبر من مردوده. أما أندرو باسوفيتش، الأستاذ في جامعة بوسطن والكولونيل السابق في الجيش الأمريكي، في كتابه "حدود القوة: نهاية الاستثنائية الأمريكية"، أوضح أنه مثل الإمبراطوريات السابقة، اكتشفت أمريكا أن التوسع مصدر رخاء لا يقاوم، ليس فقط في الدائرة الأمريكية القارية، ولكن أيضاً على مستوى العالم. ولكن التوسع الأمريكي أخذ منذ الحرب الفيتنامية في الارتداد على الأمة الأمريكية. فمنذ السبعينيات والولايات المتحدة تعاني عجزاً متفاقماً في الميزانية الفيدرالية، وخللاً متزايداً في ميزانها التجاري مع بقية العالم، وتراجعاً في معدلات الادخار، وارتفاعاً في معدلات الاتكال الاجتماعي على مقدرات الدولة، واعتماداً متصاعداً على مصادر الطاقة الأجنبية. أي أن معطيات هذا الانحسار كانت تنبئ بها منذ ثلاثة عقود تقريبا.
من المهم هنا أن نستعيد مقالة رونالد رامسفيلد مهندس استراتيجية التعذيب في معتقلات جوانتنامو وأبو غريب وسواها من المعتقلات عند بدء الحرب علي الإرهاب ـ كما قالوا: "إن لدينا خياراً: إما أن نغير طريقة حياتنا، أو أن نغير طريقة حياتهم، وقد اخترنا الأخير"،.يبقى سؤال ستجيب عنه الأحداث المقبلة: ترى من الذي سيتغير الآن؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي