أم مجرمة وكلب رحيم
لم أصدق ما كنت أشاهده على قناة "العربية" بالأمس، فقد مثلت سيدة أمام عدد من القضاة في إحدى المحاكم البلجيكية بتهمة ذبحها أبنائها الخمسة واحداً تلو الآخر في واحدة من أبشع الجرائم التي هزت وجدان المجتمع البلجيكي بأسره، وعلى مدى ساعة ونصف كانت كلما ذبحت طفلاً حملته لتضعه في سريره ثم طعنت نفسها بالسكين نفسها رغبة في إنهاء حياتها غير أنها لم تنجح في ذلك، وتم إنقاذها حيث إنها كتبت على باب المنزل قبل أن تطعن نفسها عبارة تطلب بها من المارة استدعاء الشرطة، والأم بلجيكية في حين أن الأب مغربي مسلم وقد تزوج بها قبل 15 عاما وأنجب أربع بنات وابنا في الرابعة من العمر، وقد وقف الأب مع حشد من المسلمين في أحد مساجد بروكسل ليصلي على أبنائه الخمسة الذين قتلوا بيد أمهم.
وعلى الرغم من أن كثيرا من الغموض يحيط بهذه القضية إلا أن المؤلم والمخزي في الوقت نفسه هو كيف يتخيل الإنسان أن تقوم أم بهذا الأمر، وقد عرضت القناة مشاهد لتمثيل القاتلة جريمتها وكيف أنها قامت باستخدام سكين لذبح أبنائها ثم استخدمت سكينا أخرى ثم قامت باستخدام رخام لضرب أحد الأبناء على رأسه ليموت، أمور لا يكاد العقل يصدقها أو يتخيلها، والغريب أن القناة نفسها عرضت في الخبر الذي يليه قيام أحد الكلاب بتعريض نفسه للخطر لإنقاذ جثة كلب آخر تم دهسه في أحد الطرق السريعة. والذي يرى المنظر يتعجب من شجاعة هذا الكلب ووفائه لصديقه فهو يرمي بنفسه بين الشاحنات والسيارات ليسحب صديقه من الطريق السريع غير مبال بحياته، وعلى الرغم من صعوبة هذا العمل فإن الكلب لم يتوقف حتى تمكن من نقل صديقه إلى جانب الطريق.
إن المقارنة بين المشهدين غير منطقية خصوصاً أننا نقارن بين إنسان وحيوان وقد كرم الله بني آدم، والإنسان في المشهد الأول ليس إنسانا عاديا بل أم، وكلمة أم يترتب عليها عديد وعديد من الصفات في مقدمتها أنها تهتم بفلذات أكبادها فتحملهم في بطنها تسعة أشهر وتعرض نفسها للخطر من أجلهم وتسهر من أجلهم بل تجوع وتعطش من أجلهم وتأبى أن يمس هؤلاء الأبناء أي ضرر، فكيف يمكن أن تقوم ليس بأذيتهم فقط بل ذبحهم كما تذبح النعاج، في حين أن الكلب يرفض أن جسم صديقه تدهسه السيارات ويعرض نفسه للخطر عل هناك أملا أن ينقذ حياته.
إننا أصبحنا نعيش في زمن يفتقر إلى أقل معاني الاحترام والتقدير والحب فضلاً عن معاني الرحمة والشفقة والحنان، أصبحنا نرى جرائم لا يصدقها عقل وهي جرائم لا تحدث بين الأعداء بل بين أفراد الأسرة الواحدة، وأصبح العنف والجريمة مسيطران على كثير من أحوالنا، فلا يكاد يمر يوم إلا وتسمع عن جريمة بشعة في مكان ما سواءً كانت قتلا أو نصبا أو اغتصابا أو حادثا أو غيرها من أنواع الجرائم البشعة التي ابتلي بها مجتمعنا، والتي ساهم في انتشارها ما نراه في كل يوم من إعلانات متواصلة عن أفلام الرعب والعنف التي أصبحت عبارة عن دروس يومية تقدم لأبنائنا وبناتنا ليتابعوها ويتعرفوا على ما فيها من دروس تقدم لهم في قالب من الإثارة والتحدي.
إن مجتمعنا اليوم بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لمستوى العلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة، فالأب في حاجة إلى أن يراجع علاقته مع زوجته وأطفاله والأم في حاجة إلى أن تراجع علاقتها بزوجها وأطفالها، والإخوة بحاجة إلى أن يراجعوا علاقاتهم مع بعضهم بعضا والجهات المختصة بحاجة إلى أن تتخذ كل الإجراءات الصارمة تجاه أي عنف تلمسه أو حادثة تكتشفها في هذا الخصوص، فحماية مجتمعنا من العنف تأتي في الأساس بمراجعة علاقاتنا والتأكد من أنها تسير وفق منهج سليم مع جميع من حولنا، حتى لا نفاجأ - لا سمح الله - بإحدى الجرائم التي لا ينفع الندم بعدها.