هنيئا لكل حاج

في كل عام وإذا لم يتيسر لي الحج فإني أمارس الحج المعنوي والروحي، فتهيم روحي مع قوافل الحجيج، وتتابع خطواتهم وتغبطهم على تلبيتهم نداء الرحمن, فالحج كما يعرفه كل مسلم أنه من أكبر الاجتماعات في العالم بل المؤتمرات التي لا تتطلب شروطا لحضورها سوى الاستطاعة, للعاقل البالغ وبالطبع إخلاص النية. ففي الحج يجتمع المسلمون من جميع القوميات والجنسيات ومن جميع أطياف المجتمع الغني والفقير والقوي والضعيف المسؤولون والعامة يجتمعون بثوب واحد أبيض رقيق حتى لا يتمايز أحد عن الآخر بالنسبة للرجال، وللنساء ما يسترهم دون التقيد بلون معين.
نحن الآن في ثاني أيام عيد الأضحى المبارك، ولا تزال قوافل الحجيج في منى، يتابعهم من لم يتيسر له الحج بعيون الغبطة ودموع الأماني والدعوات أن يجيء عام مقبل ـ بإذن الله ـ قد يفوزون بهذه الفريضة ومنهم إخواننا في غزة. وفي كل عام أسترجع ما كتبه الدكتور علي شريعتي في كتابه (الفريضة الخامسة) فقد تميز في وصف شعائر الفريضة وربطها بالواقع الاجتماعي للفرد المسلم الذي يتجه لأداء الفريضة، ابتداء من اللحظات الأولى للنية بالحج. فيشرح بأسلوب تحليلي فقهي واجتماعي وتاريخي جميع الدوائر التي يمر بها من نوى أداء الفريضة فيغرس في الذات الجانب العقدي لهذه الفريضة الذي إذا استوعبه الحاج كما هو المطلوب لابتعد عن الأداء الذي يحوله إلى تدافع ولغو ورفث وفسوق.
دوائر الفريضة تبدأ من التمازج بين رداء الإحرام الظاهري والداخلي، حيث ترق النفس وتبتعد عن الماديات التي تحيط بالفرد في دوائر حياته اليومية، فلا حج لمن للآخرين حقوقا لديه، ولا حج لمن لم يخلص النية، ويتجه إلى عرفات ثم منى وهو متجرد من حب الدنيا وشهواتها. ومن يستوعب هذه الرقائق الروحانية لما استجاب لإعلانات بعض حملات الحج التي توفر الإنترنت والقنوات الفضائية وجميع أنواع الطعام الفاخر على مدى 24 ساعة ومركبات فاخرة!! بل هناك أيضا أكياس فاخرة تسلم إلى الباحث عن (الحج خمس نجوم) فيها حجارة الرمي!! كي لا يزعج نفسه بالتقاطها من مزدلفة فربما تؤذي خشونة أرضها أنامل يديه!!
تقول إحداهن لي: وما الذي يزعجك في ذلك؟ لديهم أموال هم الأحق بالاستمتاع بها وعلى طريقتهم. قلت لها: نعم نحن لا نتدخل في شؤون المترفين ولكن نتحدث عن أداء فريضة تستوجب الشفافية والارتقاء إلى ملكوت السموات روحيا ومعنويا بالتجرد من أثقال الدنيا ولو لأيام معدودات فقط.
في الحج خمس نجوم .. نحن هنا أمام مشاهد إعلانية مالية لا تمت إلى شفافية أداء الفريضة التي إذا استشعرها ذلك المتجرد من المخيط ظاهرا وباطنا. فلن يهتم بمتابعة الإنترنت وهو بين يدي الرحمن, لا حواجز ولا موانع تقف أمام مناجاته والإلحاح في الدعوات في أيام معدودات.
ذكر لي أحد الأفاضل أنه منذ سنوات أزعجته أصوات من كان يرافقهم خصوصا أنه كان حديثا دنيويا،, فتركهم وصعد إلى جبل عرفات حيث هناك جماعات حجاج من إحدى الدول الآسيوية يرددون الدعاء خلف أحدهم، يقول: جلست معهم رغم جهلي بما يرددونه بلغتهم ولكن شعرت بسكينة وأنا أدعو بإخلاص ونقاء لم استشعرهما وأنا مع أولئك الأصدقاء!! هذه المشاعر لا يستشعرها إلا من اعترف أن "كل شيء هالك إلا وجهه".
ومن أجمل ما يشير إليه الدكتور شريعتي في كتابه التأكيد على الدور المحوري لأمنا هاجر وسعيها في البحث عن ماء تروي عطش صغيرها في تلك الأرض القاحلة التي بقيت فيها طائعة لرغبة أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام وعبارتها: (الذي خلقنا لن يضيعنا) قمة التوكل، في صدر تلك الأم، ثم انبثاق ماء زمزم تحت أقدام طفلها إسماعيل، واعتبار ذلك الحدث جزءا من أركان العمرة والحج (السعي). كم منا من يستشعر ذلك الحدث أثناء تأديته لركن السعي؟!
أين الباحثات عن (مساواة النساء بالرجال) من هذا التكريم الرباني لهذه المرأة التي اختارها الله من النساء جميعا كي تكون (رائدة حضارة مكة) فالاستقرار والأفئدة التي استجابت لدعاء النبي إبراهيم عليه السلام كي تتشكل من تجمعاتها نواة الاستقرار والمدنية في مكة .
وتستمر شعائر الفريضة تحكي قصة المعركة مع الشيطان، كما ذكرها شريعتي، ورجمه بالجمرات، العيد قبل الرجم، إنها البشارة في الإسلام، لا للفرد، بل الأمة حينما تطيع "ونريد أن نمُنَّ على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" في جبهة القتال أرمِ الجمرات لديك ثلاثة شياطين، تهزمهم جميعًا، لو استشعرت جيدًا ما قام به إبراهيم الخليل).
بعد هذا النسك تودع مكة المكرمة وأنت مغسولا من ذنوبك كيوم ولدتك أمك عندها يقال لك: حج مبرور وسعي مشكور.
الحج فريضة لها ثقافة وأخلاقيات وحِكم. وللحاج فيها منافع أخرى، لكن كل هذا في سياق حياة متكاملة من الالتزام بروح الدين. والإخوة الحقيقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي