حتى لا نغتال البراءة

العنف ضد الأطفال لم يعد ظاهرة خاصة بمجتمع ما، بل أصبح قاسما مشتركا في معظم دول العالم ولكن تختلف حدته وأنواعه من مجتمع لآخر. وهذه مأساة حقيقية لأنه يرتكب يوميا في مختلف بقاع العالم رغم جميع محاولات الوقاية أو العلاج. مجتمعنا لم يخل منها أيضا وليست ظاهرة حديثة، إذ إنها كانت ولا تزال موجودة يعانيها هؤلاء الضحايا الذي ألقينا الضوء أخيرا على أصوات أنينهم وآثار التعذيب على أجسادهم الرقيقة، هذا إذا لم تصل بهم عمليات العنف إلى الموت نتيجة متوقعة لعمليات التعذيب المروع الذي قد لا يصدقه القارئ عند قراءته الوسائل التي يتفنن الأب أو زوجة الأب في ممارسته ضد أطفال لا يملكون قوة جسدية تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، خصوصا أن مَن يعذبهم هو الأب أي الإنسان الذي يفترض أن يكون هو الصدر الحنون إذا ما قست أصابع زوجة الأب التي تحمل أدوات التعذيب بل الموت..
ما يلفت النظر أن ظاهرة العنف والإيذاء الجسدي والنفسي والتحرش الجنسي بهؤلاء الملائكة الصغار تنتشر في جميع الدول العربية، وتمثل نموذجا لقسوة غير عادية، ففي إحدى الدول العربية يعذب الأب ابنه تعذيبا يؤدي إلى وفاته لأنه اتهمه أنه سرق أربع علب سجائر من خزانته، والثاني اتهمه أبوه بسرقة 500 ليرة، التطابق الشديد بين الحادثتين، لفت الأنظار إليهما رغم الفارق الزمني بينهما في تلك الدولة العربية، فالمجرم الأول وهو (الأب الذي تجرد من أبسط مقومات الأبوة) هدد بقية أولاده بأنه سيقتلهم إذا لم يقولوا أن الطفل وقع عن سطح المنزل ومات، والمجرم الثاني أجبر أولاده على قول الرواية ذاتها. وفي كل دولة عربية هناك حالات مماثلة, ومجتمعنا لا يخلو منها أيضا. وتوجد دراسات حول هذه الجرائم التي ترتكب في حق الأطفال، ما قد يدفعنا للتساؤل عما يدل هذا؟
هل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها أولياء الأمور أم ضعف التشريعات التي تحمي الأطفال؟ أم مناخ الصمت الذي يحيط بهذه الجرائم لأن المتسبب فيها هو أقرب الناس لذلك الطفل؟
ولهذا فإن الأشد خطورة من نوعيات هذه الجرائم في معظم مجتمعاتنا العربية وفي مجتمعنا أيضا أن الجيران أو المحيطين بالمعذبين للأطفال، وأحيانا المعلمون في المدارس التي يدرس فيها هؤلاء الأطفال (إناثا وذكورا) يعلمون بالعنف الشديد الذي يتعرض له الأطفال من قبل أبويهم أو أقربائهم، وغالبا يكون موقفهم سلبيا, سواء من خلال التجاهل لهذه الجرائم واعتبارها (أمورا عائلية)! أو كما ذكر أخيرا حول الفهم الخاطئ للحديث الشريف (أنت ومالك لأبيك)!
أخيرا, وخلال حفل افتتاح ندوة (لا لاستغلال الطفولة) التي نظمها قسم الخدمة الاجتماعية في مجمع الملك سعود الطبي بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة العنف ضد الأطفال، أوضح الدكتور عدنان العبد الكريم المشرف العام على المجمع أن ظاهرة العنف ضد الأطفال ظاهرة خطيرة والتصدي لها يتطلب إجراءات حماية وتنمية للمهارات ورفع الوعي بين أفراد المجتمع، والأهم من ذلك تشجيع الإبلاغ من أي إساءة أو عنف يتعرض لها الطفل. وأضاف أن وزارة الصحة وضعت آلية واضحة مكتوبة للتعامل مع حالات العنف والإيذاء داخل المنشآت التابعة لها، وأعدت تنظيماً خاصاً بذلك، وكونت فرق عمل للحماية ضد العنف والإيذاء في جميع مديرياتها الصحية، مشيراً إلى الضوابط المهمة لفريق الحماية بالتزام جميع العاملين بإبلاغ اللجنة عند وجود اشتباه تعرض للعنف وعدم خروج الحالة إلا بقرار من لجنة الحماية بعد تصديق مدير المنشأة الطبية.
وإذا اقتربنا أكثر من هذه المآسي سنجد أن الدراسة التي أعدتها الدكتورة سلمى سيبيه عن "العنف الأسري ضد الأطفال داخل الأسرة السعودية أنواعه وأسبابه وسمات المعتدي وظروف المعتدى عليه والإجراءات المقترحة لحماية الطفل منه دراسة تحليلية تطبيقية على عينة مقصودة بمدينة جدة للعام 2007م".
والتي كانت تهدف إلى الكشف عن هذه الظاهرة ضد الأطفال داخل الأسرة، وذلك بعرض الجوانب التالية:
1- أنواع الاعتداء وآثارها.
2- سمات المعتدي.
3- ظروف المعتدى عليه وظروف معيشته ومعيشة أسرته.
4- مسببات العنف ضد الأطفال داخل الأسرة.
5- أسباب عدم الإبلاغ عن العنف الأسري ضد الطفل.
6- الإجراءات المقترحة التي تعالج المشكلة إذا وجدت.
وقد اقتصر تطبيق الاستبيان على منطقة مكة واختيرت محافظة جدة لعام 2007 باعتبارها عينة مقصودة.
وقد توصلت إلى النتائج التالية المتعلقة بالأسباب، تعود إلى:
1. قلة الوازع الديني لدى المعتدي.
2. انشغال الأم بأمورها الخاصة وترك رعاية الأطفال للخادمة.
3. علاقة الكراهية بين الوالدين، ثم الإدمان.
4. الكبت الجنسي وعدم تيسير الوسائل لتفريغ هذا الكبت بالطرق الصحيحة.
5. مشكلات العمل.
6. عدم معرفة الوالدين بأساليب التربية.
7. جهل الأم وعدم إشباع حاجات الطفل العاطفية في صغره.
8. وجود المواقع والقنوات الفضائية التي تشجع على العنف من الأسباب المهمة والتي بلغت نسبتها بين 80 ـ 96 في المائة.
2. من أبرز أسباب عدم إبلاغ الطفل لأهله عن الاعتداء هو فقدان الأمن, وبلغت نسبته (100 في المائة)، بينما أقل نسبة وهي (40 في المائة) كانت لرغبته فيما يقدمه له المعتدي.
3. وكان من أبرز أسباب التزام الأم الصمت بالرغم من معرفتها للاعتداء على طفلها هو خوفها من وقوع الضرر عليها, وبلغت نسبة 80 في المائة وأيضا بنفس النسبة رفضها النفسي للأمر. هذه النتيجة نجدها أيضا في العديد من الحالات المماثلة, وخصوصا في حالات التحرش الجنسي حتى في المجتمعات الغربية, وقد عرض برنامج دكتور فيل وأيضا برنامج أوبرا وبنفري حالات مشابهة لصمت الأمهات أمام حالات التحرش الجنسي ببناتهن من قبل آبائهن! وهذه مواقف أحيانا يصعب تفسيرها.
أما ما طرح من حلول لمواجهة هذه المشكلات فنجدها متمثلة في هذه الدراسة بنسبة 100 في المائة على ضرورة اتخاذ إجراءات منها:
1. تنفيذ دورات للتوعية الأسرية.
2. فتح قنوات فضائية ومواقع إنترنت لتوعية الأطفال.
3. إيجاد وزارة مخصصة للأسرة.
5. تحديد قضاة مخصصين للأسرة.
6. تشجيع المحامين على تولي هذه القضايا بأجر مخفض.
7. فتح عيادات مجانية لمعالجة الآثار المختلفة للمعتدى عليه.
8. يلزم المعتدي المختل أو من يعاني مشكلات مزمنة عقلية أو نفسية بدخول مستشفى خاص بذلك.
هذه التوصيات وسواها من التي تمتلئ بها هذه الدراسات ينبغي أن نحولها إلى واقع يسهم في القضاء على هذه الجرائم التي ترتكب في حق هؤلاء الأبرياء، والأمل فيما يؤديه برنامج الأمان الأسري الوطني الذي ترأسه الأميرة عادلة بنت الملك عبد الله، وتشرف عليه الدكتورة مها المنيف المدير التنفيذي للبرنامج. فهذا البرنامج يهدف إلى إيجاد بيئة اجتماعية آمنة ومتضامنة تتصدى للعنف الأسري من خلال تفعيل ثقافة وطنية تحترم حقوق الأفراد، خصوصاً الفئات الأكثر عرضة للعنف من الأطفال والنساء وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة، وذلك عن طريق التوعية الشاملة عبر قنوات مختلفة تشمل جميع شرائح المجتمع، مع توفير الرعاية الطبية والنفسية والاجتماعية لضحايا العنف الأسري وإيذاء الأطفال أو إهمالهم في جميع مناطق المملكة، إضافة إلى تدريب وتأهيل العاملين في هذا المجال للتعامل الأمثل مع هذه الفئات المستضعفة. وسيعتمد البرنامج في ذلك على خيرة الخبرات الوطنية, وكذلك التعاون مع جميع الجهات الحكومية والأهلية المعنية بهذا المجال.
إنهم أمانة في أعناقنا أولئك الذين غيبهم تعذيب أهلهم وقسوتهم، فرحلوا عن عالم لم يرحم ضعفهم ولم يحتو براءتهم.. فلنحافظ على البقية ونحمي أهلهم من قسوتهم ونهيئ البيئة والمناخ الصحي اجتماعيا كي نلغي العنف ضد البراءة في المجتمع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي