هل أثّر الفكر الرأسمالي في مسيرة جامعاتنا؟
منذ خمسة عشر عاماً تقريباً بدأت موجة من التغييرات الجذرية في مسار التعليم العالي في بلادنا فكان من نتائج ذلك إعادة هيكلة البرامج التعليمية في الجامعات القديمة والانطلاقة الأفقية المطردة في إنشاء الجامعات الخاصة، ومن خلال استقراء هذه التغييرات والقرارات الخاصة بالتعليم العالي، يشعر المتابع أن العلم لم يعد الهدف الأساسي، كما كان في السابق، وبدلاً من ذلك بدأ السوق بما يحمل من معان يمثل المحور الأساسي في توجيه مسارات التعليم العالي بصورة لافتة مع التراجع الواضح لدور الجامعة كمنارة إشعاع علمي وثقافي، وهو إجراء في الحقيقة نحتاج التوقف عنده وتقويمه وإعادة النظر في نتائجه التي بدأت تتبلور في الأعوام الأخيرة.
وقد بدأت هذه التوجهات أكثر جلاءً في الجامعات الحديثة التي كان أولها جامعة الملك خالد، حيث كان من أول القرارات المتخذة في تلك الجامعة الإلغاء بالجملة للتخصصات الإنسانية دون أن يكون ذلك نابعاً من دراسات علمية تنطلق من معلومات دقيقة تؤكد ضرورة مثل هذه الإجراءات علمياً وثقافياً، وإنما كان ذلك في الحقيقة نتيجة لتوجهات فردية تحت شعار متطلبات السوق وتحت ذريعة الاكتفاء في هذه التخصصات، مع العلم بأن خريجي كليات الشريعة يعانون الآن في السعي للحصول على الوظيفة، فهل يمكن أن يقبل من أحد كائن مَن كان أن يدعو إلى إلغاء كليات الشريعة بحجة الاكتفاء، وهذا برهان ساطع يؤكد عدم منطقية الربط الكلي لمخرجات التعليم بسوق العمل.
وكانت واحدة من المفاجآت أن تقدم أقدم جامعة، وهي جامعة الملك سعود، فتتبنى إدارة الأعمال وتوليها جل اهتمامها ضمن التغييرات الأخيرة، وفي الوقت نفسه تهمل الإدارة العامة، وهنا تكمن المشكلة مع أن التخصصين كانا يدرسان في قسمين متساويين في كلية العلوم الإدارية سابقاً ولعدة عقود، أما الآن فقد أنشأت الجامعة مؤخراً كلية مستقلة باسم إدارة الأعمال، تمثل الإدارة العامة فيها قسما واحدا من أقسام الكلية السبعة (الإدارة العامة أصبحت تحت مظلة إدارة الأعمال)، بينما يمثل إدارة الأعمال في هذه الكلية الجديدة أربعة أقسام مستقلة عن بعضها البعض، وهي قسم التسويق وقسم الإدارة المالية وقسم إدارة الموارد البشرية وقسم نظم المعلومات الإدارية. ومن المعلوم أن إدارة الأعمال تعنى بالقطاع الخاص، فيما تعنى الإدارة العامة بالقطاع العام أو الحكومي بما في ذلك الوزارات، فهذه واحدة من الشواهد التي تؤكد هيمنة السوق على الجامعة القدوة في بلادنا.
وقبل هذا وفي جامعة الملك سعود نفسها، ألغي برنامج كلية التربية القائم على النظام التكاملي - الذي يتمثل في تقديم المقررات التربوية جنباً إلى جنب مع مقررات التخصصات الأخرى سواء في الآداب أو العلوم وكل هذا خلال أربع سنوات - وحوصر الآن دور كلية التربية في إعطاء دبلومات تربوية مدفوعة الثمن من قبل المستفيدين، وكان من نتائج هذا الإجراء أن أصبحت الدراسة للمرحلة الجامعية خمس سنوات، منها أربع يقضيها الطلاب والطالبات في التخصص والخامسة لدبلوم التربية الذي لم يعد مجديا من الناحية الوظيفية، خاصة أن المستوى الخامس لم يعد متاحاً للخريجين والخريجات، فكانت النتيجة أن التحق بحقل التعليم المئات من الذين لم يدرسوا شيئاً في الحقل التربوي، مع العلم أن النظام التكاملي السابق كان متميزاً من حيث الإعداد والمدة الزمنية ومستوى الخريجين، والمفارقة هنا أن يصل التعليم الجامعي للمعلم والمعلمة خمس سنوات في الوقت الذي بدأت فيه بعض البلدان المتقدمة في تقليص المرحلة الجامعية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، كما هو الحال في فرنسا.
وبعد جامعة الملك سعود أتت جامعة الملك خالد مقلدة لها فألغت النظام التكاملي في كلية التربية عند إنشاء الجامعة، وهمشت كلية التربية وزادت مدة الدراسة سنة خامسة لمن يريد حقل التعليم من أجل إدرار الأموال من دبلومات التربية، وتحديداً من جيوب الطلاب والطالبات، مع أن هذه الكلية واحدة من أعرق كليات التربية في المملكة وزودت المجتمع التعليمي في جنوب البلاد خاصة بمئات الكفاءات التعليمية، كذلك قامت الجامعة نفسها هذه الأيام بإنشاء كلية مستقلة باسم كلية العلوم الإدارية والمالية جرى تطويرها من قسمي المحاسبة والعلوم الإدارية، مع العلم أن قسم العلوم الإدارية في الجامعة يشمل مسارين متوازيين ومتساويين وهما الإدارة العامة وإدارة الإعمال. لكن الكلية الجديدة لم تشمل قسماً للإدارة العامة، إذ قامت الجامعة بإلغائه في الوقت الذي ينبغي أن يطور هذا القسم ويدعم بشكل أفضل بعد إنشاء كلية مستقلة للعلوم الإدارية، فإضافة كلمة المالية في اسم الكلية وإلغاء قسم الإدارة العامة يؤكد الانصياع في هذه الجامعة لهيمنة السوق.
وما ذكر عن الجامعتين يأتي في إطار ضرب الأمثال، وإلا فالموجة ما زالت تكتسح جامعاتنا دون استثناء، وهنا نتساءل في ظل هذه الظروف والقرارات عن مصير مصدر إعداد التربويين والتربويات، وعن مصدر التوظيف في القطاعات الحكومية بعيداً عن حسابات الربح المادي وإنهاك جيوب الطلاب والطالبات، ومن أين نأتي بمديرين عامين متخصصين، وهل يمكن أن يقوم خريج التسويق مثلاً بالعمل في القطاع الحكومي؟
والحقيقة التي لا تقبل الجدل أن هذا الاتجاه في الجامعات ناتج عن تقليد الجامعات الغربية الواقعة تحت تأثير الفكر الرأسمالي، حيث لم يعد دور كلية التربية تربوياً محضاً، بل قام الآن على تجارة الدبلومات المدفوعة الثمن من قبل الطلاب والطالبات، وهذا يشير بجلاء إلى وقوع التعليم العالي في بلادنا تحت تأثير الفكر الرأسمالي الذي يسيطر بشكل واضح على مؤسسات التعليم العالي في الغرب، ومن تلك المؤسسات يستمد مسؤولو التعليم العالي نظرتهم وخططهم في تسيير التعليم العالي في بلادنا، فالسوق لدينا أصبح الموجه الأساسي لمسارات الجامعات. فهل ستصحو وزارة التعليم العالي التي تبارك هيمنة السوق على التعليم على وقع الأزمة المالية العالمية التي كانت الرأسمالية سببا لوقوعها، وهل ستعيد للعلم هيبته ووقاره وتعيد فكرة العلم أولاً في التخطيط لبرامج التعليم؟ وهل ستحد من الانفلات الواضح في إنشاء الجامعات الخاصة التي يقول لسان حالها ادفع تنجح؟ إن مَن يتابع المفكرين الرأسماليين والعرب منهم، خاصة في تشخيصهم للمشكلة المالية العالمية الحالية يجد أنهم أرجعوا المشكلة إلى تطرف الرأسمالية بوصولها إلى مناطق ينبغي ألا تمسها ومنها التعليم والصحة.