الأزمة المالية والابتعاث الخارجي

حديث اليوم عن حدَثه, فحديث الأزمة المالية مازال في أوله, ويحتاج إلى نفس طويل وطولة بال من نوع آخر. نتبادل الحديث عن الأزمة كتناولنا للقهوة في مجالسنا أو أثناء أعمالنا, فمنا من يحبها مضبوطة ويرى أن الأزمة ستكون قصيرة الأجل، ولكنها ستعيد شيئا من العقلانية واضعةً حدا للفجوة بين الأغنياء الذين ازدادوا غناء إلى حد الفُحش والفقراء الذين ازدادوا فقراً على فقرهم، فلم يبق لبعضهم سوى تراب الأرض وهوائها وشيء من مائها, ومنا من يحبها سكر زيادة ويرى أن الأزمة ستخلق فرصا من خلال التنبؤات بانهيار فقاعة العقارات التي جعلت من تملك قطعة أرض أو شراء بيت أشبه بالمستحيل على الكثير، ومنا من يحبها سادة ويرى أن الأزمة لن تبقي ولن تذر, فالغد في أعينهم مظلم ولا صباح له.
تعاقب الأزمات الاقتصادية عبر العقود والقرون من الأمور التي يؤمن بها الكثير. الانشغال بهذه الأزمات أمر طبيعي, فقد شغلت الساسة والمحللين والأكاديميين وأصحاب المال والأعمال والعامة من البشر ممن يخاف على مستقبله ومستقبل أبنائه. إلا أن كيفية مواجهتنا وتعاملنا مع هذه الأزمات أمر أكثر أهمية, فكيفية مواجهتنا لها هو ما يقلق الكثير منا، ففي الماضي لم نكن موفقين في مواجهتنا بعض هذه الأزمات من خلال ارتكاب بعض الأخطاء التي كنا آنذاك نحسبها صوابا, ففي الأزمات لا يعرف ما هو الصواب المواتي والمناسب للتعامل مع أزمة المرحلة.
في حديث مع بعض المبتعثين في المملكة المتحدة, بدا أن أكثر ما يشغلهم هو مصير بعثاتهم في ظل الأزمة المالية. مع ثقتي الكبيرة أن برنامج الابتعاث لن يتأثر في الوقت قصير الأجل, إلا أن الاستفادة من تجارب الماضي ضرورية في مثل هذه الأزمات. قد لا يعرف هؤلاء الطلبة أن أكبر خطأ اتخذ في الماضي كان تقليص أعداد المبتعثين بشكل كبير جراء انخفاض أسعار النفط في بداية الثمانينيات. أحدث ذلك القرار فجوة في رصيد المملكة من ذوي المعرفة المؤهلين, فالمبتعثون في الستينيات والسبعينيات هم الذين يقودون اليوم بنجاح وزارات وإدارات وشركات تمثل العمود الفقري لمملكتنا.
ميزانية التعليم العام والتعليم العالي يفترض ألا تتأثر بأي أزمة اقتصادية أو أي هزة مالية, فالتعليم عامل مهم في بناء الاقتصادات والمحافظة على القدرة الابتكارية والإبداعية والتنافسية للبلاد. إذا حل الكساد المتوقع عالمياً فإن استمرارنا في الاستثمار في التعليم والتعليم العالي سواء كان في ابتعاث الطلبة أو بناء جامعات جديدة أو زيادة ميزانيات البحث العلمي أو تأهيل وتدريب الكادر الأكاديمي سيسهم كل هذا بشكل أساسي في مواجهة هذه الأزمة وأي أزمة مستقبلية. بعد مرحلة الكساد المتوقعة سيكون هناك نمو في اقتصادات دول العالم, وسيكون للدول التي لها رصيد معرفي ومنهجي كبير الحظ الأوفر في تحقيق معدلات نمو كبيرة، أي أن الاستمرار في ابتعاث الآلاف من الطلبة سيسهم في تعزيز رصيدنا المعرفي وسيساعد بشكلٍ ما على تحقيق التحول من الاعتماد على سلعة النفط، التي وبلا شك ستحقق أسعارا أقل في ظل انخفاض الطلب العالمي جراء الأزمة المالية.
في الثمانينيات ذلك العقد الذي قلصنا فيه أعداد المبتعثين, كانت هناك دول أقل منا إمكانات بفارق كبير، مثل مصر التي حافظت على سياستها الابتعاثية محافظةً على رصيدها المعرفي. وبما أن مصر في الثمانينيات نجحت في الاستمرار في ابتعاث طلبتها في أوضاع اقتصادية صعبة، هذا يعني أن بمقدورنا فعل الشيء ذاته والحفاظ على الأعداد المبتعثة اليوم سنوات عديدة مقبلة، أي أنه من المفترض أن يكون التعليم هو الأول في قائمة الأولويات، بغض النظر عن مراحل الاقتصاد التي تتعاقب ما بين كساد, انتعاش, انكماش, ونمو.. إلخ.
لا بد من المواصلة في خططنا التعليمية، حتى وإن انخفضت أسعار النفط، كما حدث في الثمانينيات. تأسيس حساب للتوفير من سنين الرخاء لسنين العجاف يصرف على الابتعاث الخارجي أمر في غاية الأهمية, هذا إذا كنا قد تعلمنا من دروس الماضي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي