Author

ازدياد حالة التشرذم والتكاليف الاقتصادية «3 من 3»

|

* المستشارة الاقتصادية ومديرة إدارة البحوث - صندوق النقد

من الأهمية بمكان إجراء تقييم دقيق للسياسات الصناعية، سواء من حيث فاعليتها في تحقيق النتائج المعلنة، أو من حيث التكاليف الاقتصادية المرتبطة بها، بما في ذلك التداعيات العابرة للحدود.
وعلى المستوى المحلي، ربما يكون من الصعب الحد من السياسات الصناعية أو التراجع عن تنفيذها نظرا لمنافعها المركزة وتكاليفها الموزعة.
وعلى المستوى الدولي، فقد تؤدي هذه السياسات إلى ردود انتقامية، ما قد يسفر عن تعميق حالة التشرذم. ووفقا للتقديرات الأخيرة لصندوق النقد الدولي، إذا قدمت الصين دعما، فإن احتمالية قيام الاتحاد الأوروبي بفرض تدبير مقيد للتجارة في غضون 12 شهرا ردا على تقديم الدعم تصل إلى 90 في المائة.
ومن الممكن أن يساعد وجود حوار حكومي دولي، أو إطار للتشاور، بشأن السياسات الصناعية على الارتقاء بمستوى تبادل البيانات والمعلومات والوقوف على تأثير السياسات، بما في ذلك عواقبها غير المحسوبة عبر الحدود. وبمرور الوقت، فمن الممكن أن تساعد قنوات التواصل المستمرة على وضع قواعد ومعايير دولية بشأن الاستخدام الملائم وتصميم السياسات الصناعية، ما ييسر على الشركات عملية التكيف مع البيئة الجديدة.
وفيما يخص كل مبدأ من هذه المبادئ الثلاثة، يمكننا أن نبحث عن مخططات من الحرب الباردة السابقة. فطوال تلك الفترة، عقدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق اتفاقيات عدة لتجنب وقوع كارثة نووية. واعتنقت القوتان العظميان نظرية الدمار المتبادل المؤكد، وكانتا على علم بأن أي هجوم من جانب إحداهما سيؤدي في نهاية الأمر إلى إبادة شاملة.
وإذا انزلقنا نحو حرب باردة ثانية، ونحن نعرف تكلفتها، فقد لا نشهد دمارا اقتصاديا متبادلا مؤكدا فحسب، بل أيضا قد تتلاشى المكاسب التي تحققت من التجارة المفتوحة. وفي نهاية المطاف، يجب ألا تغيب هذه المكاسب عن بال صناع السياسات، إذ من مصلحتهم، ومصلحة الجميع، أن يدعوا بقوة إلى إقامة نظام تجاري متعدد الأطراف يستند إلى قواعد ومناصرة المؤسسات التي تدعمه.
وبطبيعة الحال، لم تذهب منافع التكامل الاقتصادي إلى الجميع، والإقرار بذلك الأمر يشكل أهمية كبيرة لفهم الدوافع الإضافية التي تكمن وراء التحولات العالمية نحو الانغلاق، وضرورة تعديل السياسات المحلية من أجل زيادة المنافع. غير أنه ساعد المليارات من الناس على أن يصبحوا أكثر ثراء وصحة وأفضل تعليما، فمنذ نهاية الحرب الباردة تضاعف حجم الاقتصاد العالمي ثلاث مرات تقريبا، وتم انتشال نحو 1.5 مليار شخص من براثن الفقر المدقع.
فرغم عدم وجود أي علامات على حدوث تراجع كبير عن العولمة، فإن التصدعات بدأت تظهر مع تحول التشرذم الجغرافي الاقتصادي إلى حقيقة واقعة بشكل متزايد. ولو ازداد التشرذم، فقد نجد أنفسنا في حرب باردة جديدة.
إن التكاليف الاقتصادية للحرب الباردة الثانية قد تكون هائلة، فقد أصبح العالم أكثر تكاملا، وصرنا نواجه مجموعة غير مسبوقة من التحديات المشتركة، التي لا يستطيع أن يتصدى لها عالم يتسم بالتشرذم.
ومع ذلك، وحتى في ظل هذا الواقع الجغرافي-السياسي الجديد، فإنه يمكن لصناع السياسات أن يبحثوا عن حلول تسهم في خفض تكلفة التشرذم إلى أدنى حد ممكن. وينبغي أن ينصب التركيز على المناهج العملية التي تحافظ على منافع التجارة الحرة إلى أقصى حد ممكن، وضمان التصدي للتحديات العالمية القائمة، والعمل في الوقت ذاته على تحقيق الأهداف المحلية المتمثلة في الأمن والصلابة.
ومن شأن المحافظة على بقاء قنوات التواصل مفتوحة، مثلما تفعل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، تفادي وقوع عواقب جسيمة. وبمقدور بلدان عدم الانحياز، وهي أساسا بلدان صاعدة ونامية، أن توظف ثقلها الاقتصادي والدبلوماسي في الحفاظ على تكامل العالم.
وعلى كل الأحوال، فإن عديدا من البلدان الصاعدة والنامية تواجه خسائر فادحة من جراء تشرذم العالم. ورغم أن بعض البلدان تجني منافع خلال المراحل المبكرة من التشرذم، فإنها جميعا ستسجل خسائر في ظل هذه الحرب الباردة الشاملة.
وبينما نبحث خلال الأيام القليلة المقبلة في سؤال ما إذا كنا إزاء "نقطة تحول"، فإنني أحث الجميع على التفكير في كيفية التوصل إلى هذه الحلول من خلال أبحاثنا وتعاوننا. وسيكون لهذا الأمر أهمية كبيرة في الحفاظ على ما حققناه والتصدي لما ينتظرنا من تحديات عالمية.

إنشرها