Author

الحرب الباردة الثانية والحفاظ على التعاون الاقتصادي «4 من 4»

|

* المستشارة الاقتصادية ومديرة إدارة البحوث - صندوق النقد

بينما تباطأ نمو التجارة في أنحاء العالم بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، فقد تباطأ أكثر بين الكتل غير المتسقة سياسيا. وتحديدا انخفض معدل نمو التجارة بين الكتل من 2.2 في المائة قبل الحرب إلى 1.7 في المائة. وتراجعت معدلات التجارة بين الكتل من 3 في المائة قبل الحرب إلى -1.9 في المائة. وعلى أساس صاف، سيتولد عن ذلك تسارع نمو التجارة داخل الكتل الاقتصادية بنسبة 3.8 نقطة مئوية مقارنة بنمو التجارة بين هذه الكتل.
جدير بالذكر أن هذا النمط لا يقتصر فقط على التجارة في القطاعات الاستراتيجية التي يرجح أن يستهدفها صناع السياسات التي يحتمل أن تساعد الدول على التخفيف من الأخطار، بل إنه يظهر كذلك في تجارة المنتجات غير الاستراتيجية.
هناك مؤشرات واضحة أيضا على أن الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي يتجزأ وفق الخطوط الجغرافية - السياسية. فقد تراجعت مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر المعلنة بين الكتل مقارنة بالمشروعات داخل الكتل بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، بينما ارتفع الاستثمار الأجنبي المباشر الموجه إلى الدول غير المنحازة ارتفاعا حادا. في واقع الأمر، كان نصيب تلك الاقتصادات نحو 40 في المائة من مشروعات الاستثمار الأجنبي المباشر المعلنة في الربع الثالث من 2023. تزامن ذلك مع عودة ظهور التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، اللتين تتقطع بينهما الروابط المباشرة في الوقت الحالي.
فالصين لم تعد أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، وانخفضت حصتها من الواردات الأمريكية بنحو عشر نقاط مئوية في خمسة أعوام، من 22 في المائة في 2018 إلى 13 في المائة في النصف الأول من 2023. ومنذ بدء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في 2018 تسببت الحواجز التجارية فعليا في كبح الواردات الصينية من المنتجات الخاضعة للرسوم الجمركية.
لم تعد الصين كذلك وجهة بارزة للاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي في الخارج، حيث خسرت مركزها لمصلحة الأسواق الصاعدة مثل الهند والمكسيك والإمارات بالنسبة لعدد مشروعات الاستثمار الأجنبي المباشر المعلنة، ولكن هناك أدلة توحي بأن الروابط المباشرة بين الولايات المتحدة والصين يستعاض عنها ببساطة بروابط غير مباشرة. فالدول التي حققت أكبر المكاسب في حصص الواردات الأمريكية مثل المكسيك وفيتنام، حققت كذلك مكاسب أكبر في حصص صادرات الصين. وهذه الدول نفسها تشكل أيضا أكبر الدول المتلقية للاستثمار الأجنبي المباشر من الصين.
هناك أدلة متنامية غير موثقة تشير إلى وجود مجموعة من الدول "الرابطة" التي تتمتع بوضع متميز يتيح لها إمكانية الاستفادة من استراتيجية الولايات المتحدة بشأن "تخفيف الأخطار" التي تفرضها الصين. ويعود ذلك إلى عوامل مثل مواقعها، ومواردها الطبيعية، واتفاقيات التجارة الحرة مع كلا الجانبين.
فعلى سبيل المثال، سارعت الشركات الكبيرة المصنعة للإلكترونيات إلى نقل مرافقها الإنتاجية من الصين إلى فيتنام بسبب التعريفات الجمركية الأمريكية المفروضة على البضائع الصينية. رغم ذلك، تحصل فيتنام على معظم مدخلاتها من الصين، بينما تذهب معظم صادراتها إلى الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، تفوقت المكسيك على الصين لتصبح أكبر مصدر للسلع إلى الولايات المتحدة في 2023. غير أن عددا كبيرا من الشركات المصنعة التي تفتح مصانع في المكسيك هي شركات صينية تستهدف السوق الأمريكية. وفقا للجمعية المكسيكية للمناطق الصناعية الخاصة، فإن واحدة من كل خمس مؤسسات أعمال جديدة خلال العامين المقبلين ستكون من الصين.
تشير هذه الأدلة غير الموثوقة، فضلا على علاقات الارتباط في البيانات، إلى طول زمن دورة سلسلة الإمداد. ويدعم ذلك دراسة حديثة أجراها بنك التسويات الدولية، حيث فحصت بيانات ما يزيد على 25 ألف شركة، وتبين أن سلاسل الإمداد قد طال زمن دورتها خلال العامين الماضيين، خاصة تلك التي تشمل موردين صينيين، وعملاء أمريكيين.
باختصار، أصبح التشرذم حقيقة واقعة بالفعل، إذ تعمل التحالفات الجغرافية - السياسية على تشكيل تدفقات التجارة والاستثمار، وهي عملية من المرجح أن تستمر. لكن رغم الجهود التي يبذلها أكبر اقتصادين لقطع أواصر العلاقات، فليس من الواضح بعد مدى فاعليتها في ظل اقتصاد عالمي عميق التكامل والترابط.

إنشرها