Author

اقتصاديات السوق .. و«مساكن» الغد

|
ما إن ارتفعت أسعار وقود السيارات في منتصف السبعينيات حتى اتجهت مصانع السيارات إلى إنتاج سيارات صغيرة تستهلك كميات قليلة من الوقود وبدأت السيارات الأمريكية الكبيرة بالاندثار شيئا فشيئا، كما تحركت المصانع في الوقت ذاته لرفع كفاءة المحركات في استهلاك الوقود ونجحت في ذلك. فبعد أن كانت السيارة تستهلك لتر بنزين لكل كيلو متر أصبحت تستهلك لتر بنزين لكل 12 إلى 14 كيلومترا. التحول في نوع السيارة المنتجة المستخدمة لجهة الحجم وكفاءة المحرك لمواجهة ارتفاع أسعار الوقود أمر أسهل بكثير من التحول في مساحة وكفاءة المساكن لمواجهة تكاليف الطاقة والماء والنظافة والصيانة، ولكن كما يبدو لي لا خيار أمامنا سوى التحول وإلا سنواجه تكاليف لا قبل لنا بها، تكاليف قد تستهلك نحو نصف دخل رب الأسرة الذي قد يكون متورطا في دفع إيجارات أو أقساط شهرية للمسكن الذي يقطنه. بعد الطفرة الاقتصادية الأولى أصبحت مساحة المسكن السعودي لا تقل عن 400 مترمربع وبمساحة بناء تصل إلى نحو 700 مترمربع بل فاقت ذلك، ففي دراسة أجراها الدكتور نبيل عباس ونشرتها إحدى الصحف المحلية اتضح أن متوسط مساحة الفلل في مدينة جدة "900 مترمربع" مقارنة بمتوسط مساحة الفيلا في الولايات المتحدة ودول أوروبا الذي لا يزيد على 245 مترا مربعا في عام الدارسة نفسه. ولا شك أن المواطن السعودي لم يكن ليقبل على بناء هذه المساحات آنذاك لو لم يكن على يقين أنه قادر على تحمل نفقاتها الشهرية من نظافة وكهرباء وماء وغاز للتكييف والتدفئة والطبخ والتشجير وغيرها. يبدو لي أن الوضع سيتغير كثيرا ونحن نتحول شيئا فشيئا لقواعد اقتصاديات السوق، حيث تبدأ الدول بالتخلي عن سياسات دعم السلع والخدمات والتخفيف منها، وتحول كل الخدمات للقطاع الخاص الذي سيسعرها على أساس التكلفة زائد هامش ربح مجز، وبالتالي سيعجز المواطن عن تحمل نفقات المساكن الكبيرة متعددة الغرف، إضافة لعجزه عن تحمل نفقات الأسرة الكبيرة وتحول الكثير من الشباب لفكرة الأسرة الصغيرة التي لا يزيد أفرادها على خمسة أفراد بسبب المعطيات الاقتصادية. ولقد أكد أكثر من باحث أن صغر مساحة المسكن لم يعد هاجسا يواجه الشباب السعودي المتزوجين حديثا أو الراغبين في الزواج بل على العكس من ذلك تماما، حيث أصبحوا يرغبون في المساكن الصغيرة كالدبلكسات والشقق. ولقد قام الكثير من الآباء بتقسيم مساكنهم لشقق صغيرة له ولأبنائه، حيث يسكن هو وزوجته وأبناؤه الصغار في شقة ويسكن كل واحد من أبنائه المتزوجين في شقة منفصلة وهناك الكثير من الأبناء من انتقل للسكن في شقة منفصلة في عمائر أخرى غير بيت والده. يقول الكثير إن الأرض في بلادنا متوافرة ومن حق كل مواطن أن يحصل على قطعة أرض لا تقل عن 400 مترمربع ليبني فيلته الخاصة عليها، متناسين أن المشكلة ليست في الأرض بل في تكلفة تطويرها وتكلفة بناء المسكن وتكاليف تشغيله الشهرية. لنأخذ متوسط مساحات مساكن الدول الغنية الكبيرة كمثال ففي أمريكا متوسط مساحة المسكن 250 مترا مربعا، وفي أستراليا 220 مترا مربعا، وفي كندا 180 مترا مربعا، ويشمل المسكن موقفا للسيارة وحديقة أمامية وأخرى خلفية أي أن مساحة البناء أقل بكثير مما هي لدينا. ما الأسباب التي جعلتهم يتجهون للمساكن الصغيرة رغم عظم مساحة أراضيهم؟ بكل تأكيد التكاليف الشهرية من كهرباء وماء ونظافة وضرائب وغيرها وذلك بالتزامن مع صغر حجم الأسرة الغربية وهو أمر بدأنا نلحظه في الأسرة السعودية الحديثة حيث أصبحوا يرغبون في وحدات سكنية صغيرة تتلاءم مع دخلهم وحجم أسرهم ليتمكنوا من إدارة أمورهم المالية بكفاءة عالية وتوزيعها على جميع المتطلبات والحاجات بشكل متوازن. في دول غنية كثيرة مثل اليابان متوسط مساحة المسكن 130 مترا مربعا وفي سنغافورة 80 مترا مربعا، وهونج كونج 50 مترا مربعا وذلك لتخفيض نفقات التبريد أو التدفئة والإنارة والنظافة، حيث ترتفع تكاليف الكهرباء والماء وتكاليف ساعات عمل الخدم ولتخفيض تكلفة الضرائب حيث ترتفع الضرائب بارتفاع مساحة المسكن. يبدو لي أن منزل الغد الذي يريده شبابنا وربما جميعنا سيكون كما هو حال المساكن في الدول المتقدمة من حيث المساحة والمكونات والديكورات الداخلية للأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ذاتها التي تشكلت في الغرب نتيجة تطبيق قواعد اقتصاديات السوق. وهذا يتطلب رؤية مستقبلية لوزارة الإسكان والمطورين والممولين في السوق العقارية لتلبية هذا النوع من الطلبات من المساكن الملائمة للاتجاهات الحديثة المتوقعة في ظل توسعنا في تطبيق قواعد اقتصاديات السوق التي سترفع أسعار الخدمات والعمالة وتفرض الضرائب. يجب أن تراعي وزارة الإسكان بالتعاون مع عناصر السوق الإسكانية خصوصا المطورين والممولين قضية الإسراف في بناء مساحات زائدة لا تستخدم إلا في حالات نادرة وتتطلب مبالغ كبيرة لبنائها وتأثيثها وتستهلك طاقة كبيرة وتتطلب تكاليف كبيرة لصيانتها ونظافتها وخصوصا أن تكاليف الخدم في ارتفاع مستمر الأمر الذي سيضطر ربة البيت والأبناء لخدمة أنفسهم في المستقبل كما هو الحال في الدول الغربية، وقد يستعينون لنظافة المنزل بخادمة لمدة ساعات محددة في الأسبوع، وهذا يتطلب إعادة تصميم المنزل داخليا أيضا. يجب أن تعي وزارة الإسكان ومنظومة التطوير العقاري في بلادنا أن الهدر والإسراف في البناء لا يتحمله الفرد السعودي فقط بل يتحمله الاقتصاد السعودي أيضا حيث تذهب الأموال لاستيراد الأثاث والأدوات الكهربائية وغيرها لمساحات بناء لا تستخدم، وبالتالي علينا أن نسارع في شرح تصورنا لمنزل المستقبل الملائم للأسرة السعودية ولدخلها ولمقومات البلاد الاقتصادية. ختاما، إن بناء نحو 1.5 مليون وحدة سكنية خلال سبع سنوات يتطلب ثروات هائلة وتكاليف تشغيل وصيانة كبيرة وعلينا أن نوفر للمواطنين المسكن الملائم دون إسراف، المسكن الذي يوفر لهم المأوى والعيش الكريم دون أن يثقل كاهلهم والاقتصاد الوطني بتكاليف لا قبل لهم ولا لاقتصادنا بها.
إنشرها