Author

«بدون» في مملكة الإنسانية!

|
هل تخيلت يوما أن تكون في وطن وارف بالعطاء تولد على ترابه وتنتمي إليه ولا تعرف أرضا غير أرضه أو أهلا غير أهله ولا حدودا غير حدوده؟ لكنك تعيش قسوة الحرمان بكل تفاصيلها المؤلمة، وتقضي عمرك داخل حدوده بلا تعليم أو علاج أو وظيفة أو زواج بلا ورقة واحدة تشعرك بالانتماء إلى وطنك، إلى تراب الأرض التي احتوتك وإمعانا في القسوة لا تستطيع أن تغادرها إلى بلد آخر، من منكم تخيل هذا المشهد الإنساني الموغل في القسوة والإحباط والضياع والذي لا يفيه مقال عابر حقه؟ هؤلاء هم أشقاؤنا ''البدون'' يعيشون بيننا في ''مملكة الإنسانية'' ويشاهدوننا ونحن نتمتع بكامل الحقوق التي وفرتها لنا الدولة، بينما هم في عالم آخر من المعاناة في رحلة البحث عن ''هوية'' منذ عشرات السنين. ملف ''البدون'' في السعودية ليس ملفا شائكا أو مستعصيا على الحل، وليس ورقة سياسية يتقاذفها مزايدو ''الانتخابات البرلمانية'' كما في بعض الدول المجاورة، ولكنه أسير ''البيروقراطية'' والوعود البطيئة التي ألقت بظلالها على هؤلاء الأشقاء، فباتوا يعيشون ظروفا بالغة القسوة لا يليق بنا السكوت عنها ونحن في دولة عم خيرها دولا وأوطانا بعيدة ترسيخا لقيمنا الإنسانية والأخلاقية، فكيف تختفي هذه القيم عند حدود أشقاء يشاركوننا ذات الانتماء بلا فوارق؟ أعجزنا كمجتمع ومؤسسات مدنية أن نسهم في حل قضيتهم وإنقاذهم من حياة الضيم والشعور بالظلم؟ كيف يعيش هؤلاء حياتهم والفرد منهم عاجز أن يكمل تعليمه أو يتعالج في مستشفى أو يتزوج ويثبت أحقيته بالزواج والانتماء بل حتى موتاهم لا يستطيعون أن يدفنوهم في مقابر المسلمين؟ يا لها من صورة مؤلمة جدا بسبب تباطئنا خسرنا آلاف الكفاءات والمواهب من ''البدون'' وأوجدنا شعورا خانقا بالأسى والانتقام في نفوس هؤلاء وحرمنا وطننا من الاستفادة من موارد بشرية ثمينة ما كان لنا أن نضيق بهم من أجل تفاصيل صغيرة طوتها السنون. يعاني ملف ''البدون'' اليوم غياب الإحصائيات الدقيقة وضعف النشاط الاجتماعي والإعلامي الذي يدفعه ليكون حاضرا في أجندة المسؤولين باستمرار ولم يحظ الملف باهتمام يوازي المعاناة القائمة، بل إن أصحاب المعاناة نفسها يئسوا من الحل فاستسلموا لواقعهم القاسي وأستثني من ذلك الجهد الذي قامت به ''الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان'' فقد رصدت واقع البدون منذ سنوات وأولته اهتمامها وقدمت الكثير من المقترحات، ولكن البطء في التعامل مع الملف ما زال قاتلا لم أستطع العثور على إحصائيات دقيقة لهؤلاء المتضررين ووجدت تقديرات متفاوتة ما بين 16 ألفا و70 ألفا، لكن لفت نظري تلك التقارير الإعلامية والحقوقية في المواقع الأجنبية والتي تصب جام غضبها على المملكة وتصفها بأبشع الصفات بسبب ملف ''البدون''، وهو أمر محرج لنا كمجتمع في ظل اهتمام القيادة الرشيدة بالتفاصيل الإنسانية الدقيقة التي لم تستطع الأجهزة التنفيذية ترجمتها إلى حلول عملية فاعلة. وكيل وزارة الداخلية اللواء عبد الرحمن الفدا وهو بالمناسبة رجل نشط استطاع إحداث نقلة في قطاع ''الأحوال المدنية'' واختصر على الناس جملة من التعقيدات ''البيروقراطية'' صرح لوسائل الإعلام خلال اجتماع موسع لقيادات الأحوال المدنية في المنطقة الشرقية، بأن الأحوال المدنية تفكر جديا في حلول عملية لملف ''البدون'' قريبا '' لكن ''قريبا'' تاهت في متاهات أخرى لا نعلم مداها والناس متعطشة للحلول وليس الأفكار. رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في السعودية الدكتور مفلح القحطاني، قال إن الجمعية تعايش معاناة يومية لهؤلاء الأشخاص الذي لا يحملون أوراقاً ثبوتية وينتمون لقبائل سعودية عدة، ومحرومون من حقوقهم في العلاج والعمل والزواج والدفن في المقابر، مشيراً إلى أن ''حقوق الإنسان'' رفعت إلى الجهات المعنية مطالبة بحل هذه المشكلة. معرباً عن أمله في وضع حل جذري لقضيتهم ودمجهم في المجتمع بما يمكنهم من التمتع بحقوقهم، خصوصاً أنهم يعانون حتى في السفر إلى الخارج، ويواجهون صعوبة في تأمين العيش الكريم لأسرهم. إن ملف البدون ليس بأصعب من ملف ''الجالية البرماوية'' الذين تجاوزت أعدادهم 400 ألف وافد وقد تصدت الدولة أخيرا لهذه القضية الشائكة وبدأت اللجان أعمالها في حصرهم والاستعداد لمنحهم إقامات نظامية وتعديل أوضاعهم بما يضمن لهم حق العيش الكريم والاستفادة من قدراتهم لخدمة البلد ولا أرى أشقاءنا ''البدون'' أقل شأنا أو اهتماما من الجاليات الوافدة.
إنشرها