Author

نجيب ونجيب: تشابهت الأسماءُ وتفارقت الشخصيات

|
تأملات الإثنين .. مَسَّى الله بالخير زميلي في المرحلة المتوسطة "نجيب خُجا"، نحمل الاسم نفسه، وكنا صديقين، أو بالأحرى تفضّل هو بصداقته عليّ. لماذا أقول لكم تفضّل عليّ؟ صبركم معي رجاءً. كان "نجيب" حلو التقاطيع، سمح الطلة، دائم الابتسام، لسرٍ ما تعلق به الجميع، وصار "أيقونة" المدرسة، وقائد فريق كرة القدم، والممثل الأول على المسرح، وخطيب الإذاعة الصباحية، وكان شعلة الرحلات بمرحِهِ ولطافته وبصوته الخلاّب في الأناشيد، حتى إن بعضنا ينام على صوته. كثير من زملائنا متفوقون دراسياً، وبعضهم رياضيا، وكثير منهم بسّامون مرحون ولطيفون، إلا أنهم لا يملكون مغناطيسية "نجيب" التي لا تقاوم.. بل طرأت ظاهرة أخرى في كل ضاحيتنا الصغيرة، صار جيلنا يقلد "نجيب" في ملبسه وطريقة مشيته وحتى تسريحة شعره.. طبعاً مَن كان منا له شعر قابلٌ للتسريح، فقد كان شعر "نجيب" سائحاً لمّاعا بلون الكستناء المشوي. لذا كسب نجيب قلوبّ الجميع.. لم يترك أحداً لم يتلاطف معه، أو يصادقه صداقة حقيقية. خذوني أنا على سبيل المثال. في صغري كنت من النوع الذي لا تطيقه إلاّ أمُّه.. منطوياً، شديد الخجل، وكنت الوحيد في عمري الذي ملك مكتبة جمعتها من "فسحتي" وأعمالي الصيفية، منقطعاً عن الشارع، أرتدي نظارة أكبر من وجهي وأنا في الرابعة الابتدائية، وفي حصة الجغرافيا يقدمني أستاذي فخوراً لأرسم خريطة العالم السياسية بدولها وكنت أحفظها عن ظهر قلب، ويقدمني للصفوف العليا كالسادس ابتدائي لأشرح لهم قواعد النحو.. ما الذي حصل؟ نفرَ مني الجميعُ بامتياز! وإن سرتَ معي خطأ وأنتَ لا تعرفني في الفسحة المدرسية فستعافني في اللحظة، ستجد شخصاً منغلقاً على عالمٍ يخصُّه لا يتكلم إلا عمّا قرأ في الكتب، ولطالما التفتُّ يميني أو يساري لأجد مَن كان معي قد فرَّ بجلدِه! لم يصادقني إلا نجيب.. بل أخرجني ولو قليلاً من قوقعتي فصرتُ ألعب الكرة، وكان يقول لي أنت دفاع متقدم لمرونة مرورك بالكرة، لذا حرصت أن آتي للعب لأسمع ما يصفني به نجيب. وكان يأتي بيتي، وصرت أفاخر أهلي أن عندي صديقاً حقيقياً.. لأول مرة. والحاصل أن جدتي أحبته وكانت حاكمة البيت الأولى لا جدي.. وأحبته أمي، بل تعلّق به الجميع. هذه المغناطيسية الشخصية ما هي؟ أنا أراها هبة من الله لمختارين مصطفين من البشر، ليست هي تعليمات "كارنيجي" في كيف تكسب الأصدقاء، ولا محاضري تنمية الذات في مسألة الجمالية الشخصية لأنهم يتكلمون عن تجاربهم هم، فلكل إنسان طريقة معينة تلقائية في كسب الأصدقاء. هل يجب أن يكون الإنسان جميلاً ورقيقاً وموهوباً مثل "نجيب خُجا" ليكسب قلوب الناس، طبعاً مَن هم مثل "نجيب" يربحون، ولكن هناك طرق عامة تحبّب الناس إلى شخصية إنسانية بذاتها، ومن صنعنا نحن. خذ أن رجلا تقيا في الحي ويناصح بلطف فستكون له قابلية كبيرة، حتى لا نقول الكلمة الكبيرة مغناطيسية. أنظر لجارك الذي يأتي ويقول لك من تلقاء نفسه: "دعني أعتني بنباتات بيتك وأنتم مسافرون" فإنه في الحال يكسب قلبك.. بل لن أنس بالأمس شابا اسمه "مبارك الدويرة" كنا نسير معا إلى باب مطار الرياض الواسع ولا نعرف بعضنا، ولمّا وصلنا الباب، وقف فجأة وقدّمني، مع أنه لم يكن لذلك ضرورة لاتساع المدخل للعشرات في آن.. إلا إنها هذه الجمالية الأخلاقية. بقي وجه "مبارك" معي في الطائرة أستدعي ملامحه وأبتسم.. شابٌ صغير قلب مزاج يومي كاملا، وكأنه زرَع واحةً كاملة في صحراء. أشياءٌ صغيرة تجعل الناس تتعلّق بك. قبل الأمس كنت متحسباً للقاء الدكتور "صالح النجار" الذي سيستقبلني في مطار المدينة، وقابلني متوثباً بضمةٍ معتبرةٍ وضحكةٍ مجلجلةٍ جعلتني أودّع كل الارتباك والتحسّب، ومعه الدكتور اللامع "حامد الفريدي"، وإذا هو من النوع اللطيف الدهاء حتى أن ضحكنا لمّا سيارته بلعَتْ جوالي، واتهمته أنه تعمد صُنع مزالق بسيارته تستولي على الجوّالات، سبب المداعبة أننا صرنا أصدقاء في اللحظة لعفويتهما وصفاء قلبيهما. بعد الملتقى فُوجئت أن الدكتور "زياد أبو زنادة" يسألني عن إعداد قهوتي، وخلت أنه سيكلف أحداً من الإخوان العاملين بالفندق، فإذا هو بنفسه يعملها ويقدّمها لي.. أسَرَني في الحال. قد لا نوهب المغناطيسية الشخصية، ولكن نستطيع صُنع جمالنا الشخصي وكسب محبة الناس بمبادرات صغيرة، أثرها في الناس كبير.. عندما تعطي أحداً حق المرور قبلك لن تخسر شيئاً، ولكن للحظات كسبت قلب سائق آخر.. الجميل في كسب المحبة أنها سهلة.. لو بادرنا. وهنا، عندما تلتفت يمينك أو يسارك ستجد صديقك ما زال بجانبك!
إنشرها