Author

المؤسسات والشركات العربية لا تهتم بتنمية ثقافة الموارد البشرية

|
لم يسبق لي أن تجرأت على الحديث عن أمر ما لم يكن لي نصيب من المشاركة الراسخة أو الممارسة العميقة فيه، إلا أني أجد نفسي رغم طراوة خبرتي مدفوعاً بدافع الفضول للحديث عن أمر بات مهماً جداً بحسب أهمية وحجم الاقتصاد المحلي والعالمي، وبحسب طبيعة الشركات وكثافتها البشرية. ومع الأسف إننا نعيش تغييباً لثقافة الموارد البشرية ومعرفة مدى أهميتها في نشأة وتنشئة الدول الصناعية والمنتجة والمتقدمة منذ عصور وحتى عصرنا هذا. في الحقيقة، إني مثل غيري لم أكن أدرك أهمية هذا المجال العملاق ودوره الفعال في الشركات والمؤسسات والمُنشآت المختلفة باختلاف حجمها ونشاطها حتى اقتحمتُ هذا المضمار مسيراً لا مخيراً، لأجد نفسي في قلب الشركة النابض وشريانها المغذي لجميع أقسامها، وليس ذلك فقط، بل هو الروح الذي به تكسى المنشأة صبغة النجاح أو الفشل حتى إنك ترى تأثير هذا القسم أي "الموارد البشرية" في مُحيا الموظفين والعاملين في المنشأة، فهو قسمٌ إداريٌ تنظيميٌ خدماتي، وكذلك ترفيهيٌ وتنفيسي، وقل ما شئت أن تقول من الأوصاف الجذابة فأنك ستجد كل ذلك في أحضان "الموارد البشرية". كنتُ أتساءل في نفسي حينما أرى تلك الدول المصنعة والمنتجة سواء الشرقية منها أو الغربية عن السبب الرئيس الذي يدفع تلك الشعوب إلى أن تكون "بشرية" فاعلة تهتم بأن تكون شريكة في صناعة المستقبل، وأن يكون لها حضور من خلال الإبداع والتطوير الذي يذهل العقول، فهذه الصحف ووسائل الإعلام تُطلعنا وتُتحفنا في صباح كل يوم - ونحن نحتسي القهوة ولا نملك أكثر من ذلك - بالإبداع البشري الذي تتنافس عليه تلك الأمم، وكيف أن هذا التنافس كان وما زال سبباً رئيساً في صناعة الحضارة وتطور العقول، حتى إنك تجد الطفل الذي لم يتجاوز العقد الأول من عمره لا يحتاج إلى أن يذرف الدموع في بغية تلك الدمية أو ذلك الروبوت، فهو يمتلك الثقة والقناعة المشبعة التي تجعل من غرفته الصغيرة مصنعاً متواضعاً يحقق من خلاله أقصى غاياته الطفولية، وينمي مهاراته الذاتية وقدراته الإبداعية. بينما نجد في عالمنا "الثالث" وواقعنا المرير الوضع مختلفاً جداً، والصورة قاتمة ولا أعزو ذلك للبشر أنفسهم بالكلية، ولكن هناك عوامل أسهمت في تحقيق ذلك التدهور الانحداري الذي تعشيه مجتمعاتنا وفي مقدمتها "ثقافة الموارد البشرية". إن الدور المنوط بكل فرد أو مجموعة لإيجاد حراك عملي ننسف من خلاله هذا الجمود المخزي الذي جعلنا في "مؤخرة" الأمم, وجعلنا في حال المتفرجين والمكبلين لا نملك إلا الاقتناء والاستهلاك ولا ثالث لهما هو غرز ونشر ثقافة "الموارد البشرية" على أوسع نطاق ممكن داخل المجتمع وبيان مفهومها وكيفيتها ونماذجها المشرقة على مستوى الشركات والدول المبدعة في ذلك، وتفعيل دور المؤسسات الاجتماعية، ودعم المؤسسات المدنية الناشئة ذات الإمكانات المحدودة. إننا حينما نتأمل هذه الجملة المركبة "الموارد البشرية" فإننا نجد أن المفهم يدور حول محورين لهما أهمية قصوى، بل لا ينفصل أحدهما عن الآخر في دورة حياة البشرية، وهما العنصر المادي والمتمثل في الموارد المتاحة التي غالباً ما تمثل الثروة الطبيعية التي تعكس اقتصاديات كل دولة، والعنصر البشري وهو الإنسان الذي يمتلك من الموارد والطاقة الذاتية ما تخوله لأن يكون له دور وأثر في هذه الحياة، وهذا ما يهمنا في هذا المقام، حيثُ إن الدول التي استطاعت أن تنهض بمجتمعاتها أدركت أهمية الإنسان وقيمته الفعلية، فجاءت نتائج هذا الإدراك لتؤكد صناعة الإنسان وتطويره لتكون موارده الذاتية بديلة ومتاحة سواء في حاضرنا أو على المدى البعيد القائل "بنضوب الطاقة"؛ كما أنها لا تقل أهمية عن استخراج النفط وصناعة الطاقة وغير ذلك حيثُ إن الأبحاث أخذت دورها في الاستكشاف عن الموارد الذاتية للإنسان وكيفية الاستفادة منها وإمكانية تطويرها والرقي بها لتحقق أهدافاً مستقبلية تكمن في صناعة واستقرار الأمان المستقبلي القائل بخطورة "نضوب الطاقة" على البشرية في المستقبل، وأهدافاً حالية تتمثل في تنشئة اقتصاديات عملاقة جعلت من بعض تلك الشركات تقيس أرباحها بمجموع أرباح غيرها إن لم يكن جميع دول الشرق الأوسطية، وجعلت للإنسان الذي ينتسب إليها ذا قيمة أينما يولي وجهه في هذه الدنيا، حيثُ يجد أن الاحترام والتقدير والتعظيم يحوط به وكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وهذا هو الهدف الأخرى وغير المباشر. إذاً نجد أن مفهوم الموارد البشرية لا يقتصر على المعنى المجازي للجملة، بل إن لكل شق منها تفسيراً عميقاً تتفرع منه نظريات ومبادئ علمية تختص بعلوم مختلفة. فالموارد بطبيعتها تحتاج إلى تخطيط وتنظيم وقياس وتقييم وتطوير مستمر، الأمر الذي يساعد على الرقي بأداء الموظف وإكسابه مهارات إضافية تتناسب مع موارده الذاتية والمتمثلة في العقل والتخصص والخبرة والأدوات المكتسبة وإمكانية تطويره وغير ذلك، وليست في ذلك كما يظن البعض أعباء أو تكاليف إضافية تتكبدها المنشأة إذا ما قابلنها بالفوائد المكتسبة؛ بل هو استثمار يعود نفعه على المنشأة ويساعد على نمو أرباحها، فلو افترضنا أن لدينا آلة تنتج لنا في الساعة ألف وحدة واستبدلناها بآلة أخرى أكثر تطوراً تنتج لنا في الساعة ألفي وحدة فسنجد أننا حققنا منافع مكتسبة ومتعددة، كذلك الإنسان أو الموظف على وجه الخصوص، كلما كان في تطوير مستمر كانت إنتاجيته وأدائه أفضل وأكبر مما كان عليه في السابق، كما أن نقل الثقافة والنماذج الناجحة في تلك المجتمعات، خاصة في اليابان سيساعد على ترسيخ المعرفة ونشر الوعي لدى المجتمع، ولا يكتفى بذلك بل يفترض أن تستقرأ بطريقة علمية وأكاديمية وتقدم في قوالب عملية تساعد على تغذية البنية الأساسية لتطوير المجتمع ولأبنائنا في مدارسهم وجامعاتهم ومعاهدهم، وإيجاد مؤسسات ومراكز أبحاث تهتم بذلك وتسعى إلى التطوير المستمر وتكون مدعومة من قبل الدولة وبإشراف وإدارة خبراء في هذا المجال. وهنا ندرك أهمية الموارد البشرية في المنشأة وأهميتها كثقافة من المفترض أن تشاع وتتربى عليها المجتمعات وينشأ عليها الأبناء ليتأصل فيهم من الصغر حب العمل ويتحقق بذلك أصلٌ راسخ في نفوسهم ليكون لهم دور فاعل وبناء تجاه أنفسهم ومجتمعهم ، وما نشاهده في واقعنا مع الأسف خلاف ذلك بالكلية، فالتركيز منصب على أن يخرج أبناؤنا بثقافة الاتكاليين والعاطلين الفاشلين المفرغين، لا أهداف خططوا لها ولا مستقبل بذلوا له، وذلك كله كما ذكرت سالفاً لعدم إدراك وتشبع عقولهم لأهمية ثقافة ودور الموارد البشرية وانعكاسها على حياتهم في الحاضر والمستقبل، ولا يخفى على أحد ما للإعلام من دور مهم في توجيه الشعوب والمجتمعات وخاصة وقود الأمة من شريحة الشباب، وكيف أن العقول أصبحت تتأثر وتقبل في لحظات ما لم يؤثر فيها اللسان ولا الأقلام. كما أننا ومع الآسف نفتقد تواجد دور وزارة العمل في وسائل الإعلام وفي تجمعات الشباب والمدارس والجامعات حتى إنك لو سألت أحد أبناء هذا الجيل الصاعد ماذا تعرف عن وزارة العمل وما دورها فضلاً عن هو وزيرها؟ لقال لك لا أعلم. قد أكون محظوظاً لزيارتي ووقوفي على بعض الشركات العملاقة التي تُدار برؤوس أموال ضخمة وبعقول وجنسيات وثقافات مختلفة. كما في المقابل وقفت على شركات متوسطة وصغيرة اقتصادياً استطعت من خلالها أن أقرأ وأفهم بيئة الأعمال وطبيعتها المتفاوتة بتفاوت التخصصات والأنشطة التي تفرض على تلك المنشآت أن تهتم بتطوير وتثقيف موظفيها عن تلك، بل هناك من لم يقف على حدود التطوير داخل المنشأة لتصل به القناعة - وهذا هو الصائب - إلى أن تطوير وتثقيف الموظف والرقي به لتكون له مكانته الاجتماعية من خلال مرتبه الممتاز وبيئته العملية الراقية تسويق غير مباشر للمنشأة ولقدراتها الإدارية الناجحة وهذا ما نلحظه بالفعل في واقعنا، فنجد أن ذلك الشخص الذي يعمل في المنشأة (أ) التي تمتاز باهتمامها الملحوظ بكل من ينتسب لها ليست كتلك المنشأة (ب) التي لا ترعى الاهتمام؛ فالمنشأة (أ) استطاعت أن تكسب وتبني جسور الثقة مع العميل وتوجد الولاء لها ولمنتجاتها من خلال الصورة الحسنة التي أوصلتها إلى أذهان الناس وروجت لها، فالتنافس أصبح لا يقتصر فقط على نوعية وطبيعة وجودة المُنتج وما إلى ذلك، بل أصبح مرتبطاً بشخصيات وكوادر هم جزء من الترويج للمنتج، وعلى رأس المدراء التنفيذيون. وفي الحقيقة، إننا نشاهد تنافساً حاداً في هذا المضمار من خلال الشركات العملاقة وخاصة ما نشهده من تنافس بين "جوجل" و"مايكروسوفت" وغيرهما من الشركات، وأنا في هذا المقام لا أُحيد دور المنتجات وجودتها والإعلانات وتأثيرها ولكن أُؤكد أن هناك عوامل ومفاهيم أخرى باتت مهمة لدى كثيرين في التأثير في قراراتهم الاستهلاكية وكذلك ثقافتهم التسويقية. إن بعض المؤسسات والشركات في عالمنا العربي ليس لها دور فعال في تنمية ثقافة الموارد البشرية فضلاً عن تصدير هذه الثقافة إلى خارج المنشأة ليستنير بها المجتمع؛ حيثُ إن البعض يرى أن مجتمعاتنا العربية تقليدية في طبيعتها الاستهلاكية، فهي لا تحتاج إلى تصدير دور المنشأة في تنمية مواردها البشرية لتسويق منتجاتها أو غرز الثقة والولاء لدى المستهلكين، بينما الواقع يُثبت ما هو خلاف ذلك، فالمستهلك أصبح يواجه منافذ تسويقية مختلفة تمتاز كل واحدة منها بميزة تنافسية عن الأخرى، مما جعل المستهلك مدفوعاً لمعرفة حقيقة هذه المزايا، وذلك من خلال معرفة طبيعة المنشأة من الداخل ولا سيما الكوادر ذات الموارد العالية والمطورة، التي تمتاز بالإبداع والاحترافية وهذا لا يكون لولا تفعيل ثقافة الموارد البشرية لدى المنشأة. إذاً نحن في حاجة إلى دور جاد وبصمة مشرقة في تنمية دور الموارد البشرية في عالمنا العربي عامة ومجتمعاتنا خاصة، وذلك من خلال جامعتنا ومؤسساتنا التعليمية وشركاتنا العملاقة وخبرائنا المهتمين بذلك، وأن يكون هنالك تنافس بين الشركات في تمويل الأبحاث التي تسعى إلى تطوير هذا الجانب المهم وباستمرار، وألا يُبخس هذا الدور الرائد ليندثر؛ بل يجب أن تكافئ وزارة العمل تلك الشركات بالنظر إلى حاجتها وتسهيل إجراءاتها وتقديم كل ما تحتاج له كأقل خدمة تقدم لدعمها الفاعل نحو مجتمعها. كما أن دور الوزارة لا يقتصر على ذلك فقط، بل يجب أن تتابع وتقيس مدى نجاح تلك الأبحاث وحاجة السوق لها، لكي تسير العملية التنموية للقوى البشرية على خطى متزنة وثابتة نحو الهدف المنشود، وهذا ما نأمله - بإذن الله - إذا تضافرت الجهود، وأحسسنا بأهمية الموضوع في حاضرنا ومستقبلنا والله تعالى أعلم.
إنشرها