إيتاي .. إيتاي
في مقاطعة توياما بوسط اليابان وعلى ضفاف نهر جينزو الجميل كانت عيادة الدكتور هاجيتو الصغيرة تمتلئ بالمرضى.عاش الدكتور سنوات في هذه المنطقة الريفية ولم يكن يأتيه سوى الحالات الموسمية المعتادة كالزكام والولادة وغيرها. لكن في هذه الفترة بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت عيادته الصغيرة تكتظ بمرضى يعانون مرضا غامضا. كانت آلامهم مبرحة حتى أنهم كانوا يصرخون "إيتاي ... إيتاي"، التي تعني: إنني أتألم ... إنني أتألم. لاحقا عرف المرض عالميا باسم إيتاي إيتاي (Itai-Itai). بداية كان المرضى يعانون آلاما في العظام والعمود الفقري تتطور حتى تصبح قابلة للكسر لأوهن الأسباب كالعطاس الشديد. غالبا ما كان يصاحب ذلك فشل في وظائف الكلى.
استمر المرض الغريب لسنوات عديدة وحار العلماء جوابا. وجود المرض في هذه المقاطعة وحدها ساعد العلماء على تركيز بحثهم على منطقة صغيرة وعوامل معينة. ولهذا فقد لاحظ العلماء نفوق عديد من الأسماك وكذلك تأخر نضوج محاصيل الأرز – التي كانت تسقى بماء النهر. أدت الأبحاث لاحقا إلى الاستنتاج بأن نهر جينزو يحمل في مياهه هذا القاتل المرعب. كان النهر ولسنين عديدة هو مصدر مياه الشرب الوحيد في المنطقة بأكملها. لكن كيف يمكن لمياه النهر الرقراقة بصفائها ونقاوتها التي لم تتغير على مر السنين أن تحمل هذا المرض المميت؟
في أعالي النهر كانت شركة ميتسوي تنقب لسنوات عن الذهب والفضة والنحاس والخارصين في مناجم كاميوكا ذات الشهرة الكبيرة. كان التنقيب هناك أساسا للبحث عن الفضة وهو ما تم العثور عليه في نهايات القرن السادس عشر. وفي القرن الثامن عشر تم العثور على الذهب بكميات كبيرة وهو ما أعطى المنطقة شهرة عالمية في مجال التنقيب عن المعادن. ومع التطور التكنولوجي السريع في عمليات التعدين وزيادة الطلب العالمي – نتيجة قيام الحروب العالمية في المقام الأول - زاد الإنتاج بصورة مطردة حتى تبوأت مناجم كاميوكا الريادة العالمية.
لم تكن أي من هذه المعادن لتسبب هذا المرض حتى وإن تسربت إلى مياه النهر. المتسبب كان معدنا جديدا نسبيا يتم استخراجه عن غير قصد عند التنقيب عن الخارصين وهو الكادميوم (Cadmium). لم يكن هذا العنصر النادر والمكتشف في القرن التاسع عشر في ألمانيا ذا أهمية اقتصادية وهذا ما دعا شركات التنقيب للتخلص منه باستمرار. الكادميوم المتسرب إلى النهر تراكم على مر السنون في مياه الشرب وفي محاصيل الأرز حتى أدى إلى ظهور الأعراض المخيفة لمرض إيتاي إيتاي كما توصل إليه الباحثون في عام 1957.
عند دخول عنصر الكادميوم إلى الجسم فإنه يهاجم الكبد ويعطل الكلى بشكل لا يمكن تعويضه. يقوم الكادميوم – الذي لا يعرف له فائدة حيوية للجسم - بالتغلغل إلى العظام، ما يفقدها صلابتها وتعدو هشة من الممكن كسرها بكل بساطة.
أمرت المحكمة شركات التنقيب في عام 1971 بدفع المليارات من الين للمتضررين وبمعالجة الماء والتربة الزراعية. كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ اليابان التي يتم فيها تغريم شركة بسبب تلوث بيئي. بعد عقود من هذه الحادثة لم تسجل أي حالة جديدة للمرض ومع هذا لا تزال هنالك أسئلة كثيرة بخصوص هذا المرض الذي ظهر واختفى فجأة. فمثلا ولسبب غير مفهوم لم يكن المرض يصيب الكل بل النساء فوق سن الخمسين بشكل محدد مع أن الجميع كان يشرب من مياه النهر. والأغرب أن الدراسات الحديثة تثبت أن التسمم بالكادميوم وحده لا يمكن أن يتسبب في كل أعراض مرض إيتاي! كان الجميع في اليابان يرجو أن تكون صفحة إيتاي وتلوث مياه الشرب بالسموم الكيميائية قد طويت للأبد لكن وبعد سنوات قليلة فقط سوف يسمع الصراخ نفسه في مقاطعة يابانية قريبة ولكن هذه المرة عند تناولهم السمك الملوث بالزئبق من التسربات الكيميائية لمصانع المنطقة ذاتها.
هناك دروس كثيرة مستفادة من حادثة إيتاي إيتاي فالرغبة اليابانية العارمة آنذاك في اللحاق بركب التطور والخروج من خيبات الحروب دفعت بهم في سباق محموم مع الزمن. هذا الإصرار الياباني أدى إلى توسع غير مسبوق في عمليات التعدين وفي إنشاء مصانع الكيماويات المختلفة. هذه الطفرة – التي تمر بها بعض بلدان العالم الثالث حاليا- لم تراع مع الأسف المعايير البيئية، ما أدى إلى حوادث تلوث كارثية للمياه وللمحاصيل الزراعية بل لكامل البيئة المائية في حوادث منفصلة بداية من حادثة إيتاي في الخمسينيات مرورا بحادثتي ميناماتا في الستينيات وكذلك حادثة تلوث الهواء في يوكاتشي. هذه الحوادث البيئية – نتيجة التلوث الصناعي- سميت لاحقا الحوادث الأربع الكبرى في التاريخ الياباني وأدت إلى تغيير كبير في إدارة المصانع الكيميائية من الناحية البيئية.
كان مرض إيتاي إيتاي أيضا مؤشرا مهما ومبكرا لخطورة التسربات الصناعية، خاصة المناجم على مصادر الشرب. حاليا تفرض قوانين صارمة في الدول المتقدمة لمعالجة جميع المخلفات الصناعية قبل إلقائها في المسطحات المائية. هذه القوانين غير موجودة أو غير مطبقة في كثير من بلدان العالم الثالث ومنها الدول العربية مع الأسف، ما ينذر بسماع أصوات تصرخ إيتاي إيتاي قريبا.