إهمال .. وقلوب من جليد

هل جربت أن وصلتك رسالة تحمل مقطعا لا يتجاوز الثواني، ولكنه كان كفيلا بقلب كيانك وشحنك بجرعات من الغضب لا تهدأ، بل قد تستمر إلى نهاية اليوم، حين تقف أمامه عاجزا لا تعرف كيف تنقذ الضحية أو تثأر من المجرم الذي تم تصويره بالجرم المشهود، ربما لا تتعرف على الضحية ولا المجرم، ولكن ضميرك الحي وشعورك بالمسؤولية يدفعانك إلى مد يد العون على الأقل بالتبليغ، وإذا تمعنا قليلا فسنجد في تلك المقاطع المليئة بالجرائم والجنح والمخالفات غير الإنسانية دروسا وعبر يجب ألا تمر مرور الكرام، بل ينبغي أن يتوقف عندها طويلا الإخصائيون الاجتماعيون والنفسيون ليحللوا أسبابها ويضعوا لها نظاما لمعالجتها بالتعاون مع أصحاب القرار في الدولة، لأن تركها دون حساب ينذر بمزيد من المخاطر.
منذ نحو ثلاثة أسابيع وصلتني صورة لطفل لا يتجاوز السنتين من عمره، تائه في كورنيش الجبيل، طلب مني أن أتداول صورته على حساباتي في وسائل التواصل، لعل وعسى تصل إلى والديه أو أحد أقاربه فيتعرف عليه ويذهب لتسلمه من قسم الشرطة، شعرت بتأنيب الضمير وكأنني والدة الطفل، ما دفعني إلى متابعة الخبر حتى تم العثور على أسرته. وحوادث الأطفال المفقودين أصبحت أبسط إهمال يتعرض له الطفل حين تجتمع الأسر في نهاية الأسبوع ويتركونه يلهو دون رقابة، وحين يضيع ويتعرض للذعر يلومونه ويوبخونه على تقصيرهم!
وفي مكان آخر تتكرر مأساة أخرى بشكل شبه يومي، بل أصبح المرء يمر أمامها مرور الكرام وكأنها أمر طبيعي وهي في الأساس انتهاك، على الرغم من الضجيج الذي كان يعم المجمع التجاري في مساء تلك الجمعة إلا أنه وصل إلى مسامعي صوت بكاء طفل متواصل أقلقني، لم أستطع التركيز على عملية شراء احتياجات الأسرة، لأن الشعور بالذنب بدأ يتسلل إلى نفسي، فأخذت أبحث عن مصدر الصوت، استجابة لتلك الأصوات داخل رأسي، كيف أتجاهل كل هذا البكاء وأدير له ظهري، ربما يكون طفلا تائها، ولكن صوته رضيع، ربما تعرض لمكروه أو حبس في مكان ما ولم يسمعه والداه بسبب صوت الضجيج، ولكن كيف سمعته إذن، ربما لأن أذني تحب أن تلتقط صوت الأطفال وربما.. وربما، إلى أن وجدته، ولكن لم يكن بمفرده، بل وجدت بجواره فتاة لا تتجاوز السادسة تجلس على الأرض تهز عربة الطفل بشكل مستمر والدموع تنهمر من عينيها، لم أستطع تجاهلها، فاقتربت منها أسألها عن اسمها وأطمئنها بأننا سنجد والدتها، نظرت إلي وأشارت إلى المحل الذي تجلس على بابه "أمي هنا" فسألتها ولماذا إذن تبكين، ثم لمت نفسي على السؤال، وكيف أسألها وهي من الأساس لا تستطيع التعبير عن استيائها أمام المسؤولية التي كلفت بها إلا بالبكاء الصامت، بعد أن عجزت عن إيقاف بكاء أخيها المتواصل، خشيت أن أغادر وأتركها فألوم نفسي خاصة بعد انتشار حوادث اختطاف الأطفال وسط الزحام، وذلك المساء كان الازدحام يسيطر على الموقف بشكل جنوني، وقفت في الاتجاه المقابل أراقب الطفلين لعل وعسى تخرج والدتهما لكي أطمئن وأغادر، ولكن للأسف مر أكثر من نصف ساعة ولم يظهر للأم أثر. طوال تلك المدة التي قضيتها في حراستهما كانت الصغيرة تضع "اللهاية" في فم أخيها الذي كان يصمت ثواني ليرضعها قليلا ثم يبصقها من فمه بطريقة عصبية وينفجر باكيا مرة أخرى حين يدرك أنها خالية من الحليب، فتعود الطفلة تلتقطها من الأرض وتدسها في فمه مرارا وتكرارا، وحين أصبح الأمر لا يطاق وتحول الانزعاج إلى غضب، أوقفت رجل الأمن الخاص بالمجمع وطلبت منه أن يبحث عن المرأة، فلم يعرني أي اهتمام بل هز كتفيه بأن ذلك ليس من واجباته، دخلت إلى المحل وسألت أكثر من امرأة "هل أطفالك في الخارج"، وحين أجابت إحداهن بالإيجاب أخبرتها بكل لطف، فلم ترفع رأسها عن البضاعة، وحين شتتُ تركيزها بتكرار كلامي قالت بعصبية "خلاص يا أختي دريت" ولم تتحرك مشاعرها لصوت بكاء طفلها الذي تجرحت حباله الصوتية من البكاء، بل بكل قلب بارد أدارت رأسها وعادت تقلب الصحون والطناجر وكأنها وقعت على كنز!
حين يسرق الموظف أو يختلس يقبض عليه ويحاكم ويعاقب ثم يسجن لتفريطه في الأمانة، فكيف بالأمانة التي يربيها الوالدان! حين طالب المجتمع بقانون لحماية الطفل من الإيذاء، لم يكن فقط ضد التحرش بل الإيذاء بجميع أنواعه من إهمال واستهتار، إذ ينبغي أن تجرم الأنظمة في المقام الأول الوالدين بتهمة "إهمال" الطفل الذي تحت وصايتهم، وما نحتاج إليه الآن ليس فقط توعية ونشرات في الأماكن العامة والتلفزيون، بل رسائل تحذيرية للمجتمع بأكمله، تحذر بأن الدولة لن تتهاون مع أي فرد تسجل ضده "جريمة إهمال طفل قاصر" مثل فقدانه في الأماكن العامة، أو تركه بمفرده مع أغراب أو بجوار أدوات خطرة، أو تحميله جزءا من مسؤولية الكبار، وتذكرهم بأنها جنحة يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة، فقط في تلك اللحظة سيدرك صاحب القلب المتجمد أن إهماله في حق طفله جريمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي