هاؤم انظروا حاليَ .. أمن مسكن يؤوي أولاديَ؟ (1 من 2 )

[email protected]

ربما لم تحظ قضية باهتمام قطاع واسع من جمهور الناس ووسائل الإعلام، بعد مأساة انهيار سوق الأسهم، مثل ما حظيت به قضية برنامج تمويل المساكن الذي أطلقته المؤسسة العامة للتقاعد (مساكن). وصف أخي القدير الدكتور عبد الرحمن الزامل في مقالته الهادفة المنشورة الإثنين الماضي في هذه الجريدة، رد فعل الجمهور والصحافة على برنامج مؤسسة التقاعد بالحاد والشرس! وربما كان الأمر كذلك. لكن حجم ومستوى رد الفعل هذا يفسر حجم المأساة التي يعانيها الناس ومقدار الإحباط الذي يشعرون به. وليس أدل على ذلك من جملة بليغة بدأ بها الدكتور عبد الرحمن مقالته حينما قال: هناك إجماع أن بلادنا تواجه مشكلة إسكان شعبها! وحل مشكلة الإسكان في بلادنا لا يكون بالاقتصار على تقديم برامج تمويل محدودة من هنا وهناك كل عدة عقود، وإنما بتبني منظومة إسكانية متكاملة تضمن تملك الناس مساكنهم بطرق يسيرة كما يجرى في دول العالم الأخرى.
كان الدكتور عبد الرحمن الزامل أكثر صراحة من مسؤولي مؤسسة التقاعد عندما أشار إلى مسألة أساسية وهي أن برنامج مساكن هو برنامج تجاري صرف وليس برنامجا اجتماعيا. وأنه ليس متاحا للجميع وإنما يخدم فئات تستوفي شروطا معينة من موظفي الدولة ومتقاعديها. وأن هذه الشروط تقتضيها طبيعة عمل المؤسسة العامة للتقاعد في استثمار أموال المتقاعدين وتنميتها. ومن ثم فهو ليس برنامجا مجانيا كما تصور البعض، بل له تكلفة ولكنها في رأيه تكاليف معقولة ومنافسة إذا قورنت بالتكاليف التي تتقاضاها البنوك. لكني قد أتحفظ على قول الدكتور عبد الرحمن الزامل أن تكاليف البرنامج أقل من التكاليف التي تتقاضاها البنوك. إن تكلفة التمويل في برنامج مساكن هي في حدود 5.5 سنويا لمدة 25 سنة وهي النسبة نفسها التي تتقاضاها البنوك تقريبا وربما كان التمويل البنكي بشروط أيسر خاصة من حيث طريقة الاستفادة من مبلغ التمويل. بل إن البنوك قد بدأت في تقديم التمويل الشخصي طويل الأجل للأفراد. فالأفراد يمكنهم الحصول على تمويل من خلال صيغ متعددة لفترة طويلة بالتكلفة نفسها أو ربما أقل اعتمادا على القوة التفاوضية ونوع الضمانات. لكن مشكلة البنوك هي أنها تتقاضى فوائد على كامل المبلغ طيلة فترة القرض، بينما يفترض أن تكاليف برنامج إسكان متناقصة، تفرض على المبالغ غير المسددة فقط. وهو وإن كان إجراء لم يسبق للبنوك أن عملت به!! لكن تصحيح الخطأ لا يجعله في حقيقة الأمر ميزة أو منة من أي طرف. فما درجت عليه البنوك عند إقراضها الأفراد بمقاضاتهم بتكاليف مستمرة حتى على المبالغ المسددة، لم يكن أصلا وضعا طبيعيا. ولعل هذا يرجع إلى انتفاء المنافسة وضعف الضمانات الحافظة للحقوق.
أما ما يقال في برنامج إسكان من أن فيه ميزة السماح بسداد التمويل كاملاً دون أرباح بعد الانتهاء من تسديد رسوم وأرباح السنة الأولى، فهذا ترتيب يمكن أن تقدمه البنوك أيضا. بل أكثر من ذلك فإن التمويل البنكي مؤمن ضد احتمال وفاة المستفيد. ولهذه الأسباب لم يجد الناس ميزة حقيقية في برنامج مساكن، ولعله كان من الأوفق أن يقتصر دور مؤسسة التقاعد على استثمار أموال موظفي الدولة من خلال تشجيع البنوك على تقديم صيغ تمويل متعددة تتعهد فيها مؤسسة التقاعد بتقديم الضمانات، ثم تقوم المؤسسة – إن رغبت – في شراء صكوك التمويل لهذه البرامج، بدلا من أن تشغل نفسها في تبني برامج تمويل ومنح القروض لا تختلف كثيرا مما هو موجود لدى البنوك، وتسبب للناس هذا الإحباط الكبير.
ومع ذلك فقد كان الدكتور عبد الرحمن الزامل صادق التشخيص مخلص النصح عندما عرج على قضية الإسكان عموما في بلدنا. فقد شخص - حفظه الله - الحال بنظرة الخبير وحذر من ذيوله. وفي الوقت نفسه اقترح تعديلا إيجابيا على أحد شروط برنامج مساكن يجعل المدينين لإحدى المؤسسات المالية من طالبي التمويل يستفيدون من هذه الخدمة. فقد اقترح تقديم خدمة التمويل لهؤلاء الموظفين أو المتقاعدين بغرض تملك مساكنهم بالشروط نفسها عن طريق شراء المساكن لهم، لكن دون تسليمها إليهم وإنما تؤجر لصالح المؤسسة العامة للتقاعد من قبل مؤسسات متخصصة تجمع الإيجارات السنوية من المستأجرين ثم تسدد أقساط القروض المستحقة حتى يتم إطفاء كامل مبلغ التمويل ثم تنتقل ملكية المساكن إليهم. وبذلك تحقق هذه الفئة غرضها في تملك مساكنهم بعد عدة سنوات، وفي الوقت نفسه تسترجع المؤسسة أصل المبلغ وعوائده.
إلا أن مشكلة الإسكان في بلادنا لن تحل حلا جذريا سليما ومريحا إن اقتصرت المهمة على توفير برامج تمويل محدودة بين الحين والآخر من قبل بعض المؤسسات التي تأخذ الوضع القائم كما هو وتبني فوقه. ولنا في صندوق التنمية العقاري مثل وعبرة. فالحلول الجزئية تعقد المسألة وتخلق مشكلات من نوع آخر. الحل السليم لا يكون بتوفير برامج تمويل جزئية محدودة للناس وتركهم جهودهم الفردية في التخطيط والبناء، فهذا ينشئ أحياء مشوهة ومباني رديئة. الحل يجب أن يكون متكاملا. لو استثمر مبلغ المائة مليار ريال التي قدمها الصندوق للناس خلال الثلاثين سنة الماضية في برامج إسكان متكاملة تتولاها شركات تطوير عقاري متخصصة، لكانت مساكننا أجود وأحياؤنا أجمل.
لا شك أن برنامج تمويل "مساكن" أعاد الأضواء لقضية تأخر حلها أكثر مما يجب، حتى كادت تكون منسية. لكن من حسن الطالع أن ظهرت أخيرا بعض التطورات التنظيمية (كالهيئة العامة للإسكان) التي نتمنى أن تسهم في التصدي لقضية الإسكان من خلال تحديد أصل الداء أولا، ثم إعطاء هذه المشكلة ما تستحقه من عناية بالنظر لأهميتها وسبقها في أولويات احتياجات الناس. قضية الإسكان ليست قضية اجتهادات وآراء، بل هي وقائع مبنية على حقائق وأرقام. فنسبة تملك المواطنين المساكن في بلادنا هي من أقل النسب بين دول مجلس التعاون الخليجي وربما بين بلاد الدنيا. إذ تبلغ هذه النسبة عندنا نحو 22 في المائة، فيما هي بين 85 و91 في المائة في الكويت والإمارات ! وهو وضع يعكس خللا بيناً ويحتاج إلى تصحيح وعلاج عاجل. والعلاج يكون بالوقوف على أسبابه الأصلية التي آلت به نحو هذا المآل. فما هذه الأسباب وما الحل؟ نتابع يوم السبت المقبل, بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي