التضخم يبتلع ميزانيات محدودي الدخل
يشكو المواطن الخليجي من ارتفاعات في أسعار السلع والخدمات لم يسبق لها مثيل في الأسواق الخليجية، ورغم أن قطر والبحرين والإمارات أعلنت أن معدلات التضخم تجاوزت الـ 6 في المائة إلا أن مؤسسة النقد السعودي تتحدث عن انخفاض في التضخم من 3 في المائة إلى 2.9 في المائة.
ودعونا نكون صرحاء, فإن الشارع السعودي يشكك في الأرقام التي تعلنها مؤسسة النقد سواء بالنسبة إلى التضخم أو بالنسبة إلى معدلات نمو الناتج القومي، بل إن المواطن يشكك في الإحصائيات التي تصدرها العديد من المؤسسات الحكومية كوزارة الاقتصاد والتخطيط عن عدد السكان ومعدلات نمو السكان وغيرها من الإحصائيات التي لا يهضمها المواطن ويضع حولها علامات استفهام كثيرة.
إن أول شريحة من شرائح المجتمع التي يضربها التضخم بسلاحه الفتاك هي شريحة الطبقات الفقيرة التي نسميها أحياناً محدودي الدخل، ولذلك فإن هذه الطبقة هي التي تحس بارتفاعات الأسعار لأن رب الأسرة في هذه الطبقة يلعب دور ساعي البريد بالنسبة إلى دخله ومصروفاته، فهو إنسان يتسلم راتبه بيده اليمنى في بداية الشهر، ويسلمه بيده اليسرى إلى أصحاب فواتير السكن, الهاتف, الكهرباء, والبقالات، بحيث لا تنتهي الأيام العشرة من الشهر إلا وتكون كلتا يديه خاويتين على عروشهما.
أما حينما يكتوي محدودو الدخل بنار التضخم، فإن وظيفة ساعي البريد تظل كما هي ولكن بدل أن يقوم بها في خلال عشرة أيام، فإنه يقوم بها في خلال يوم واحد، فهو يتسلم راتبه في اليوم الأول من بداية الشهر ويسدد ما عليه في نهاية اليوم، ويبقى المسكين طوال باقي أيام الشهر يندب ويلطم الزيادات الهائلة التي تجتاح أسعار السلع والخدمات في الأسواق.
هذا الإنسان هو الذي يدلنا على حقيقة التضخم هل هو إلى زيادة مروعة أم إلى انخفاض وفقا للتقارير التي تصدرها البنوك المركزية؟
نحن حقيقة في حاجة إلى تطبيق المزيد من قواعد الشفافية والموضوعية في جميع البيانات الإحصائية .. حتى تعبر هذه البيانات عن واقعنا الاقتصادي أحسن تعبير .. أما إذا كانت الأغلبية في المجتمع تئن من ارتفاعات المستوى العام للأسعار وتأتي البيانات وتقول إن التضخم يتجه إلى الانخفاض فإننا نغالط أنفسنا قبل أن نغالط الحقيقة والواقع. نحن نسلم أن أسعار السلع والخدمات عبر القرون والعقود دائما إلى الزيادة، ولو قارنا أسعار السلع والخدمات قبل نصف قرن بأسعارها حاليًّا فإننا نقف مشدوهين أمام أرقام لوغاريتمية هائلة، ولذلك فإن الناس حينما يتفكهون ويعبرون عن الفرق بين ما كان وما هو كائن يضربون الأمثلة بالتغيرات التي حدثت في الأسعار أو الدخول، فكثيرًا ما قال لنا أجدادنا إن رواتبهم كانت بالقروش ويقولون إننا كنا نأكل ونشرب بقرشين في اليوم، وكنا نذهب إلى النورية ونبتاع الخضار والفواكه بالهللات، بمعنى أن العملة التي كانت ترتاد ألسن الناس كانت الهللة أو القرش وليست الريال أو المائة ريال أو الخمسمائة ريال، وإذا قارنا سلة الخبز حينما كانت زمان تملأ بالهللات والقروش، وبين السلة التي لا تملأها الورقة الزرقاء ذات الخمسمائة ريال.. نشعر بالفرق الهائل في أسعار السلع والخدمات بين قرن وقرن بل بين عقد وعقد.
وإذا تساءلنا: لماذا يحدث التضخم بهذه المعدلات العالية رغم أن السياسة النقدية التي تتبعها مؤسسة النقد العربي السعودي تستهدف كبح جماح التضخم؟!
نقول بداية إن هناك العديد من الأسباب لدخول التضخم على السياسة النقدية، ولعل أولها أن التضخم ظاهرة عالمية لن تنجو منه أي دولة وبالذات الدول التي تلعب دورًا مؤثرًا في الاقتصاد الدولي.
أيضًا من الأسباب التي أدت إلى زيادة معدلات التضخم هو زيادة دخول الأفراد إما نتيجة الزيادة في الإنفاق الحكومي وإما نتيجة زيادة رواتب الموظفين في القطاعين الحكومي والخاص.
يضاف إلى ذلك أن هناك سببًا مهما من أسباب التضخم وهو ربط سعر صرف الريال بالدولار الأمريكي، ونستطيع القول بصورة عامة إن ضعف قيمة الدولار يؤثر في قيمة القوة الشرائية للريال مقابل العملات الرئيسية الأخرى.
ونظرًا لأن المملكة تستورد ما نسبته 70 في المائة من احتياجاتها من السلع والخدمات من أسواق الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، فإن أسعار السلع والخدمات في السوق السعودية سترتفع مع انخفاض أسعار صرف الدولار أمام اليورو والين. يضاف إلى هذا فإن تكلفة مستلزمات الإنتاج في المصانع السعودية سترتفع وبالتالي فإن أسعار المنتجات السعودية سترتفع في السوق المحلية ناهيك عن ارتفاعها في الأسواق الخارجية مما يؤدي إلى تآكل قدراتها التنافسية في هذه الأسواق.
وأرجو ألا يفهم من كلامي أنني أطالب بفك الارتباط بين الريال والدولار لأن هذا المقال يعدد أسباب التضخم ولا يناقش العلاقة التبادلية بين الريال والدولار التي ترتهن إلى حسابات معقدة ودقيقة كما ترتهن إلى قرار سياسي يضع مجموعة من المتغيرات المتوافقة والمتعارضة على طاولة المباحثات وفي النهاية فإن قرار فك الارتباط بين الريال والدولار لن يكون سهلاً بل له آثار سلبية في المدى القصير وله آثار إيجابية أكبر في المدى الطويل.
المهم إن أولى الخطوات لعلاج التضخم هو الاعتراف بوجود التضخم وتحديد نسبته الفعلية ثم المبادرة بوضع المعالجة الموضوعية المعتمدة على الشفافية، صحيح إننا لا نستطيع أن نقضي على التضخم بجرة قلم، وصحيح أيضًا أن المسألة معقدة ومرتبطة بمجموعة من المتغيرات المحلية والدولية لأن التضخم – كما قلنا - ظاهرة عالمية.
وفي كل الأحوال فإن سرطان ارتفاع الأسعار يحتاج إلى علاج جدي حتى إن كان نسبيّا وبطيئا، وإلا فإن الشريحة الأكبر في المجتمع هي التي سيقعدها التضخم عن تلبية الكثير من حاجاتها الضرورية.