لماذا يشتد الصراع على صناعة الرقائق الإلكترونية؟
لم تعد ساحة معركة الجغرافيا والاقتصاد والسياسة اليوم ترتبط بطرق التجارة والفضاء السيبراني، إنما أصبحت محفورة على رقائق سيليكون بعرض ظفر الإصبع. لقد تحولت الشرائح الدقيقة لتكون الركيزة الأساسية للاقتصاد الحديث: فمن الذكاء الاصطناعي إلى الصناعات العسكرية، ومن المركبات الكهربائية إلى البنية التحتية الحيوية وصناعات الفضاء والهواتف المحمولة بجانب أجهزة الكمبيوتر والأجهزة المنزلية.
وبالرغم من الثقل التي تتمتع به الصناعة، إلا أنه عند النظر للأطراف المسيطرة عليها نجد غياب للقوى الاقتصادية الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين والقارة الأوروبية. حيث تستحوذ شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات (TSMC) على الحصة السوقية الأكبر من إنتاج الرقائق الإلكترونية العالمية. فقد وصلت نسبة الشركة في الربع الرابع من عام 2024 من حجم السوق العالمي إلى 67.1%. سيطرة شركة (TSMC) امتدت لتشمل الاستحواذ على نحو 90% من إنتاج الرقائق المتقدمة والتي تشكل أولوية بالنسبة للصناعات الإستراتيجية التي تشكل مستقبل الاقتصاد العالمي.
ومن جهة أخرى تتمتع كوريا الجنوبية أيضا بمرتبة متقدمة في صناعة الرقائق وذلك عبر شركتها الأهم والأكبر "سامسونج"، حيث استحوذت الشركة على حصة سوقية عالمية من إنتاج الرقائق الإلكترونية وصلت في الربع الرابع من 2024 إلى 8.1%. وهذا التركز يشكل خطراً على استدامة الوضع الراهن.
سباق الرقائق الإلكترونية لم يعد مجرد ميزة اقتصادية، بل أصبح مسألة بقاء إستراتيجي.
فالحكومات من واشنطن إلى نيو دلهي تتسابق لبناء القدرات المحلية وتقديم الحوافز للاستثمار وتطوير الكوادر البشرية وبناء سلاسل الإمداد والتوريد في قطاع الرقائق الإلكترونية. فقد تعهدت الولايات المتحدة بإنفاق 646 مليار دولار على مدى العقد المقبل؛ كما كشفت أوروبا واليابان والصين وكوريا الجنوبية عن خطط صناعية طموحة مماثلة. ولكن هنا تكمن المشكلة: بناء المصانع والمعامل وتمويل البحث والتطوير ليس كافياً لأن الوقت ليس في مصلحتهم.
المحك الأساسي بالنسبة للصناعة هو السيطرة على المستقبل. فالدول التي تتقن تصنيع الرقائق المتقدمة لن تهيمن فقط على سلاسل التوريد المستقبلية، بل ستحدد أيضًا اتجاه الابتكار العالمي، وتشكل بنية أمان الذكاء الاصطناعي، وتتحكم في معدل النمو الاقتصادي. هذا يتجاوز بكثير العرض والطلب. إنه يتعلق بما إذا كان العمود الفقري التكنولوجي للعالم سيكون مرنًا، ومنوعًا، أم هشًا، ومركزيًا، وعرضة للصدمات.
ستستغرق عملية التحول وقتًا طويلًا، فالدول المسيطرة على الصناعة في الوقت الحالي وفي مقدمتها تايوان بدأت رحلتها منذ عقود، معتمدة على توجيه الاستثمار إلى مجالات التعليم والبحث والتطوير، إضافة إلى تهيئة بيئة الأعمال لجذب الاستثمارات الخارجية، وتطوير البنية التحتية. تلك المكانة في الصناعة لم تحدث بين ليلة وضحاها وانما هي نتيجة سنوات من التطوير المستمر والإنفاق الموجه لبناء إستراتيجية صناعية ذات فعالية.
ومع تصاعد التوترات الجيوسياسية، خاصة فيما يتعلق بأمن تايوان، يزداد خطر الاضطراب في سلاسل الإمداد والتوريد من الدولة صاحبة النفوذ الأكبر في الصناعة.
ويشكل الوقت الحالي اللحظة المناسبة لعملية التغيير. فيجب على الحكومات والتحالفات الانتقال من التركيز على إعلانات الدعم والتمويل إلى سياسة صناعية مشتركة، وصياغة شراكات حقيقية، وفتح سلاسل الإمداد الموثوقة، وبناء قدرة مشتركة عبر الحدود، حيث يحتاج العالم إلى اتفاقية عالمية لأشباه الموصلات تكون ضمان للعمل المشترك وتعود فوائدها على مختلف الأطراف في الاقتصاد العالمي. فكما ظهر حلف شمال الأطلسي لتوفير الأمن الجماعي، يحتاج العالم إلى ميثاق أشباه الموصلات لتوفير المرونة الجماعية
ختامًا فإن السباق العالمي على الرقائق الإلكترونية لا يتعلق بمن يصبح أكثر ثراء، بل بمن سيضع قواعد المستقبل ويرسم السياسات الفاعلة. فالعالم يعاني تركزا كبيرا في الصناعة وفي حاجة ملحة لعملية التنويع.