إصلاح الإدارة الحكومية .. شرط لمكافحة الفساد
يعد الفساد الإداري والمالي أعظم معضلة وتحد يواجه الدول والمجتمعات، ويهدد استقرارها وأمنها وتنميتها الاقتصادية والاجتماعية. فالفساد الإداري والمالي أحد أبرز العوامل الكامنة وراء كثير من المشكلات التي تعانيها المجتمعات، خاصة النامية التي لم تكتمل منظومتها القانونية، ولم تبلغ بعد النضج الحضاري الذي يُحترم فيه القانون وتسود العدالة. وعندما يقتصر مفهوم الحكومة ودورها في إدارة المجتمع على منح الخدمات بنظرة فوقية وفي اتجاه واحد، يتولد انفصام بين الأجهزة الحكومية وأفراد المجتمع. فلا ينظر معظم المواطنين إلى المشاريع والخدمات والأماكن العامة على أنها ملك وحق عام، وإنما منحة ينعدم فيها الإحساس بالتملك والحرص على الحفاظ عليها. فصناعة القرار العام تعتمد على التنظيمات البيروقراطية، وليس المشاركة الشعبية عبر مجالس نيابية، فتبدو الخدمات العامة مجانية، وهو ما يجعل بعض أفراد المجتمع يسيئون استخدامها، والأدهى أنهم لا يلقون بالاً لتصرفات البيروقراطيين؛ لأنهم يشعرون أنهم لا يمتلكون حق انتقادهم؛ خشية أن يفقدوا امتيازاً، أو أن توقع عليهم عقوبة، فالموظفون العموميون هم من يصنعون وينفذون القرارات الحكومية بسيادية دون قيد أو شرط من رقابة شعبية. وعندما يُصنع القرار الحكومي برمته داخل البيروقراطيات العامة، ويعتمد على الإجراءات الروتينية المطولة دون ربطها باحتياجات وأولويات المجتمع ومستوى الأداء يتخلق فساد إداري ومالي وراء تلك الإجراءات التي تكون بمنزلة غطاء قانوني شكلي. فربما علم الناس بواقعة فساد، إلا أنهم لا يملكون إثباتها؛ لأن جميع المعاملات على الورق صحيحة، ولا يمكن إدانة أحد. هكذا يكون الفساد مؤسسا يُساء فيه استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب شخصية. ولأن المسؤول الحكومي يتمتع بحصانة كاملة، وبعيد كل البعد عن المساءلة والمحاسبة من قبل المجالس النيابية، فإنه قد يتلبس بعض المسؤولين شعور بأنه يحق لهم استغلال مناصبهم العامة وكأنها جزء من ممتلكاتهم الخاصة. وما يعزز هذه السلطة المطلقة للمسؤول الحكومي عدم وجود وصف وظيفي وصلاحيات دقيقة وتحديد للمهام، ليمتطي النظام المطاطي ويطوعه لمصالحه، ليرى أنه يحق له ما لا يحق لغيره. وهكذا يكون هناك انفلات بيروقراطي بحيث يقرر البيروقراطيون ما يشاؤون من خلال التحايل على الأنظمة وتطويعها لتحقيق مصالحهم. وفي ظل التسلسل الهرمي للسلطة داخل الأجهزة الحكومية يذعن الموظفون لرؤسائهم رجاء الحصول على منافع نظامية وغير نظامية. وهكذا تتولد ثقافة تمتد لتطول المجتمع؛ حيث يعتقد كثيرون أن من حقهم أخذ كثير بأقل القليل، فالطالب يرغب في الحصول على أعلى درجة بأقل جهد، والتاجر يريد تحقيق أعلى ربح بأقل تكلفة وجودة، وهكذا في كثير من مناحي الحياة. هذا هو السبب وراء ضعف التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ لأن المنظومة الاجتماعية المشتركة معطلة؛ حيث يكون التركيز فقط على المصالح الفردية. فأكثر الناس لا يهتمون للقضايا العامة التي لا تمسهم مباشرة مثل التلوث البيئي أو الحفاظ على الموارد الطبيعية، فهذا ما لا يستطيعون رؤيته؛ لأنهم يفتقدون النظرة المشتركة، ولا يدركون المنفعة الجماعية، وهي تقع في صميم العمل الحكومي، والسبب في نشأة السلطة العامة؛ إذ إن القرار الحكومي قرار جمعي يسعى إلى تحقيق المصلحة العامة التي لا يمكن للأفراد إدراكها بنظرتهم الفردية ومصالحهم الذاتية الضيقة.
وعندما يتولد عند كثيرين حب الذات والأنانية المفرطة، ويغيب مفهوم الحكومة في أنها من الناس وبالناس وإلى الناس يُنظر للإنفاق الحكومي على أنه غنيمة يسعى الأفراد إلى الحصول على نصيبهم بشتى الطرق، حتى لو تعارضت مع المصلحة العامة. وهكذا نشأت ثقافة "حلال الحكومة"، وكأنه مال سائب، فلا ينظر بإيجابية للممتلكات العامة، فيتم العبث بها وإساءة استخدامها وتخريبها.
إن المفهوم الغائب الذي لم يدركه كثيرون هو أن الوظيفة العامة في أساسها سيادية؛ أي تستمد سلطتها من العقد الاجتماعي، وهو تنازل الأفراد في المجتمع عن جزء من حريتهم الشخصية، من أجل السلطة العامة لتنظيم شؤونهم، والحفاظ على أنفسهم ودينهم وأموالهم وأعراضهم، فلا يمكن تصور مجتمع دون سلطة عامة تمتلك حق إجبار الناس على السلوك الرشيد، ومنعهم من تعدي بعضهم على بعض، فالأنفس جُبلت على تحقيق مصالحها الذاتية على حساب الآخرين، وربما دفعها ذلك إلى تصرفات سيئة مثل الاحتكار أو الغش أو الرشوة. ولكن لهذه السلطة العامة قدسية، ويلزم ممارستها في حدود ما شُرع لها، وهو خدمة الناس وتحقيق المصالح العامة. والطامة عندما يُساء استخدامها وتوظيفها من أجل مصالح خاصة، فهذه مفسدة كبيرة، وخيانة عظمى للمجتمع الذي ائتمن المسؤول الحكومي على رعاية المصلحة العامة، ومنحه سلطة التقرير وقوة الإجبار والسيادة.
لقد حان الوقت لمواجهة الفساد بمعالجات جذرية تتعلق بإعادة صياغة النظام الإداري والمالي الحكومي بتعزيز الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ومنح المجالس النيابية سلطة التشريع والمساءلة والمحاسبة، وتقييد البيروقراطيات العامة وجعلها تحت الرقابة النيابية. كما أن هناك ضرورة لتطبيق اللامركزية بمنح مجالس المناطق والمحافظات والبلديات سلطات أكبر. هذه الرقابة الشعبية مبنية على الربط بين المخصصات المالية والأداء والتأثير النهائي. لم يعد بالإمكان الاستمرار في تطبيق ميزانية البنود التي تعتمد على المدخلات دون ربطها بالمخرجات، فهي أحد العوامل التي تفضي إلى الفساد الإداري والمالي. لقد بات من الضروري تبني نهج الحوكمة بحيث لا يكون تطبيق النظام كافيا، وإنما التأكد من ممارسة السلطة العامة بما يتفق مع مقاصد النظام العام. ويبقى تطبيق النظام بصرامة وعدالة وكفاءة وحيادية أمرا لا غنى عنه في مواجهة الفساد. ولذا يُخطئ من يعتقد أنه يمكن التعامل مع الفساد في حالات ظاهرة ومباشرة، فما لا نراه أخطر وأعظم مما نراه. وهذا يحتاج إلى النظر بعمق وجرأة لنظام الإدارة الحكومية، وإعادة صياغته لضمان تحصينه من الفساد، والقدرة على استكشاف حالات الفساد قبل وقوعها وإنزال العقاب الصارم بمرتكبيها. الحكومة وجدت من أجل العموم ويجب أن تبقى كذلك.