Author

الحقيقة .. كل الحقيقة .. ولا غير الحقيقة ..!

|
هذا الموضوع لا يعني أولئك الذين لا يهتمون بالعيش في "سلام" مع ذواتهم وبالتالي لن يتمكنوا من العيش "بسلام" مع الآخرين، وكل ما يمكن فعله لهم هو الدعاء بالسلامة من شر ما ابتلاهم. هناك طريقين لا ثالث لهما لأن يعيش الانسان "بسلام" حقيقي وليس مصطنعاُ أو مؤقتاً، أولاهما، هو فضل من الله أن قدّر للانسان أن يكون صبوراً، متسامحاً، محتسباً للأجر دون أن يكون ذلك بداعي ضعفٍ أو مهانةٍ أو خضوعٍ للأمر المفروض بالقوة، بل من موقع قدرةٍ وكظمٍ للغيض، وعفوٍ عن الناس، وإحسانٍ إليهم، نسأل الله أن نكون من أولئك الندرة النادرة بين الخلق. أما الطريق الأخرى التي هي منتهى غاية الغالبية الغالبة (وبذلك تكون هي القاعدة العامة)، وبعد استبعاد أولئك الذين لا يهتمون للعيش في "سلام" أصلاً، فهي بالعيش في "سلامٍ مع الذات"، والذي هو أساسٌ للعيش "بسلام مع الآخرين"، ولن يتحقق ذلك ما لم يعرف الانسان "الحقيقة" في الأمور التي تعنيه وتمس شئون حياته، كاملةً غير منقوصةٍ، مجردةً غير ملبوسةٍ، وصحيحةً غير مدسوسةٍ، وإلا فسيكون "السلام" مع الآخرين "مصطنعاً" ومعرضاً "للارتداد" عند معرفة ما أنقص منها أو ألبس عليها أو دس فيها، ولن يتمكن "المُصطنع" أن يُخفي ما في صدره وأعماق وجدانه من خلال "ردة فعلٍ غريزية" لحظة معرفته "الحقيقة.. كل الحقيقة.. ولا شئ غير الحقيقة"، فهل من مثال ملموس عن هذه الرؤية التي قد تعد ضرباً من "المثالية" والتنظير الذي لا يبدو أن له صلة بالواقع؟ وأرد على ذلك "نعم" وبكل تأكيد. وإليكم ذات الحالة في ضوء واقعين متضادين، أدت ظروف الواقع الأول "لمواجهة مسلحة" لترجيح الأمور ميدانياً (دون أن يتم حسمها)، وأدت ظروف الواقع الثاني "لحوار معلن" قد يصل إلى وضع الأمور في نصابها الطبيعي، فهذا أليكس سالموند قائد حملة استقلال اسكتلندا ضد أليستير دارلينغ (وحلفاءه من خارج أسكتلندا) الذي تصدى لحملة الاستقلال (18 سبتمبر 2014 م)، مقارنة بما حصل قبل (717) عاماً بين وليام والاس قائد المقاومة ضد إدوارد الأول (وحلفاءه من داخل اسكتلندا) الذي ضم اسكتلندا لمملكته. ففي عهد لم تتوفر فيه وسائل الاتصال وتقنياتها التي اختصرت حواجز الزمان والمكان (دون أن تلغي هذين البعدين الثابتين من القانون الطبيعي)، كانت الحقيقة "حكراً" على المتنفذين والحلقة الضيقة من المقربين وأصحاب المصالح والأهداف المعلنة (وغير المعلنة)، فكان "الصدام المسلح" بين الطرفين، كلُ يحاجج من أجل قضية يراها عادلة من وجهة نظره وأن مؤيديه هم "الأغلبية"، فهذا يدعي أن مناطقاً بأسرها تتبعه وهي الأكثر سكاناً وأعلى مستواً حضارياً من تلك التي يُؤثر فيها خصمه ويُخادع مناصريه فيها، والآخر يزعم بالضد ويناضل من أجل قضيته، دون أن يتم التأكد أي الفريقين أقرب للحقيقة، والظروف كذلك فهي "مثاليةٌ" للتأويل والتخمين والتخوين والتآمر وتبادل الاتهام والانتصار للرأي والشخصنة والإسقاط، تلك الحالة في واقع وليام والاس وإدوارد الأول، وتلك هي النتيجة الحتمية عندما غابت الحقيقة أو غُيبت (ناقصة، مدلسة، مدسوس فيها). في المقابل، فعلى مرأى ومشهدٍ من العالم أجمع مؤخراً، اتفق الطرفان على أمور جوهرية وحاسمة منها من يحق لهم التصويت في الاستفتاء، فأقرا بأن من يحق لهم التصويت يقدر بنحو (4.28) مليون من السكان في (32) منطقة إدارية، وأن من أدلوا باصواتهم في إستفتاءٍ حرٍ لا تشوبه مخالفات بلغوا (3.62) مليون من إجمالي المسجلين في دوائر الإدلاء بالأصوات بنسبة (84.6%)، وأن النتائج النهائية بلغت (2.00) مليون قد رفضوا الاستقلال بنسبة (55%) وأن نحو (1.62) مليون طالبوا بالاستقلال بنسبة (45%)، مع ملاحظة أن نتائج الاستفتاء في (4) مناطق إدارية (تقع في وسط اسكتلندا من شرقها إلى غربها وهي داندي، ووست دونبارتونش، وجلاسجو، ونورث لاناركشاير) هي التي أيدت الاستقلال، تلك هي الحقيقة المجردة والمستقرة التي لم يُجادل بشأنها أيٌ من الطرفين، فقُضي الأمر برضا الجميع دون تحفظٍ أو شعورٍ بغبنٍ أو تغريرٍ أو بقية شوائبٍ في النفوس، وذلك هو النتاج الحتمي عندما تُعلن "الحقيقة". ومثال آخر ليس في زمن بعيد كثيراً، وكاد أن يزلزل أركان من يعتبرهم الكثيرون نموذج حرية التعبير عن الرأي وحرية اتخاذ القرار (الديموقراطية) في العالم ، ففي أطول "ثلاثاء" شهدته الولايات المتحدة الأمريكية خلال تاريخها المعاصر وهو 6 نوفمبر 2000 م، فاز المرشح الجمهوري بأغلبية الأصوات الناخبة (المجمع الانتخابي) فيما فاز المرشح الديموقراطي بأغلبية الأصوات الشعبية (عدد الأصوات على المستوى الوطني)، وتوقفت الحياة بشكل شبه كامل، ولم تعلن النتائج إلا في 12 ديسمبر بقرار من المحكمة الدستورية العليا بداعي أن هذا التاريخ هو الموعد النهائي المنصوص عليه في الدستور، وأن أي تأخير عن هذا الموعد سيعرض الدولة لأزمة حقيقية، وفي 13 ديسمبر قرر المرشح الديموقراطي قبول النتائج لصالح المرشح الجمهوري، وذلك تفادياً للتداعيات غير المحسوبة لوقوع مثل الأزمة الدستورية. قد يقول قائل هذان نموذجان "جمعيان" ولا يحصل كثيراً، فماذا عن تلك الحالات التي لا عد لها ولا حصر مما يحصل بين الأفراد على مدى ساعات الليل والنهار في أركان الأرض وعبر الثقافات؟ وكيف إذا لم "تُقام الحجة" أو "تُثبت القرائن المادية" على المتداعين؟ أقول أن ذلك يقودنا إلى قضيةٍ أخلاقيةٍ جوهريةٍ بامتياز، فمن الطبيعة البشرية ألا "يُقر الانسان بخطئه"، وهناك من "دعاة الفضيلة" من يحث على الاعتراف بالخطأ وتحمل المسئولية وأن ذلك "يسمو" بصاحبه ولا ينتقص من قدره، وفي المقابل هناك من ينادي بأنه ليس من العدل أن يلتزم "البعض" بمثل هذه الفضائل، بل أن ذلك قد يؤدي لتحميلهم أكثر وحتى إثارة الشكوك بأن ما أقروا به قد يُخفي ما هو أعظم. أما فيما يتعلق "بالأغلبية"، فقد تُستغل مثالية الندرة من قبل الفئة الأولى، وفي الإفلات مما يستحقونه جراء ما يرتكبون في حق الآخرين، وهم بذلك يُسيئون استغلال القاعدة الشرعية المُغلّبة في الدعاوى وهي أن "درء المفاسد مقدم على تحقيق المصالح"، وستبقى هذه "القضية الأخلاقية" قائمة، وليس لدي حيالها سوى قوله عز وجل في محكم التنزيل: "يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين..." (النساء: 135)، إنها "الحقيقة.. وكل الحقيقة.. ولا غير الحقيقة".
إنشرها