البطالة والأفكار الخلاقة
عطفا على مقالتي يوم السبت الماضي عن مشكلة البطالة في مجتمعنا، هاتفني من العاصمة البريطانية، أخي المهندس محمد عبد اللطيف جميل، ليبشرني بأن لديه أفكارا جديدة ضمن جهود مؤسسته لخدمة المجتمع تتسق مع ما دعوت إليه في مقالتي فيما يتعلق بالجهود التي يمكن أن يسهم بها القطاع الخاص لتخفيف حدة البطالة. ولمعرفتي بمنهجه الذي يسير عليه في أنه يحب أن يقرن القول بالعمل، فإني سأحترم رغبته وسأؤثر عدم الحديث عن أفكاره الآن. كما تلقيت اتصالات كثيرة من شباب عاطلين عن العمل، ومن آباء وأمهات يعاني أبناؤهم وبناتهم المشكلة ذاتها. بعضهم يشتكي الصعوبات التي يلقونها عند البحث عن فرص عمل في القطاع الخاص، والبعض الآخر يصف مقدار المشقة ومبلغ العنت الذي يواجهونه عند بدء مشاريعهم الخاصة الصغيرة من قبل صغار الموظفين ببعض الجهات الحكومية وبخاصة مراقبي البلديات، وهي مشقة غير محتملة نظرا لصغر هذه المشاريع التي لا تتحمل بطبعها المضايقات والتكاليف المترتبة على مثل هذه المكابدات.
ولكل هؤلاء كنت أقول لهم وأرجوهم أن يتخذوا من هذه المصاعب سببا قويا للإصرار على مواصلة الكفاح، فالمهم هو ألا تفتر عزائمهم وأن يؤمنوا بذواتهم، وألا يستصغروا أنفسهم، ولا يقللون من قدراتهم، فكل كبير يرونه الآن صغيرا. لذا عليهم أن يتحلوا دائما بالصبر وبطاقات نافذة وعزائم ماضية، وأن يجعلوا من الانكسارات دافعا لمواجهة التحديات وتحقيق الإنجازات. كان يهمني أن أقنعهم بأن هذه الدعوة ليست من قبيل المجاملات وتنميق الكلمات أو تهدئة الخواطر وتطييب النفسيات، وإنما هي حقيقة مشاهدة في الحياة، فكثيرا ما تبدأ قصص النجاح الكبيرة من فكرة بسيطة مقترنة بروح وثابة ورغبة صادقة في الكفاح وبلوغ النجاح. وكنت أضرب لهم أمثلة واقعية من حياتنا لبعض العصاميين من رجال أعمالنا. فالشيخ سليمان العليان، رحمه الله، بدأ ساعيا في مكاتب "أرامكو"، الشيخ سليمان الراجحي بدأ حياته متسببا يحمل على ظهره مخلفات ذبائح البعارين بدمائها التي تقطر على ظهره ويتكسب منها. الشيخ حسين قزاز بدأ تجارته بمحل صغير في باب زيادة في مكة المكرمة يبيع فيه عددا محدودا من نوع واحد من زجاجات العطر (ليالي باريس)، والشيخ صالح كامل نمّا حسه التجاري بطباعة ونسخ وتصوير المذكرات الدراسية وبيعها على زملائه الطلاب وقت أن كان يدرس في جامعة الملك سعود.
إن على الشباب أن يدركوا أن البحث عن عمل لدى الآخرين ليس هو الطريق الوحيد لكسب الرزق. إن لدى كثير من الشباب طاقات وقدرات لو اكتشفوها في أنفسهم لفتحت لهم آفاقا في الحياة ما كانوا يتصورنها. لكن على الشباب أن يتحلوا بالواقعية، ويعرفوا حدود قدراتهم ثم يصقلوها بالتدريب والاستعداد الجيد لما يتطلبه الكفاح في الحياة. وفي كل الأحوال، يجب على الشباب أن يتحركوا ويشغلوا تفكيرهم دائما بضرورة عمل شيء ما، فالقابع في منزله والمتواكل على غيره لن يحقق شيئا. عندما يتحرك الشاب وينزل معترك الحياة ويتفقد الأسواق، قد يكتشف فكرة بسيطة تفتقر إليها السوق ويرى في نفسه قدرة على سد فراغها بجهد وأدوات بسيطة. الحياة حولنا فيها عوالم عديدة غير العالم الذي نعرفه ويحيط بنا في الحي أو المنزل. بعض الأفكار قد لا يستطيع شخص بفرده تحويلها إلي فكرة ناجحة على أرض الواقع، لكن يمكن بتكاتف جهود مجموعة من الشباب لديهم العزيمة نفسها والإصرار نفسه تحويلها إلى فكرة ناجحة.
إن للعديد من الأنشطة الاقتصادية التي تدور في حياتنا خط إنتاج متعدد المراحل، لو تأمل كل عاطل هذه المراحل، لتبين له أن بإمكانه أن يتوسط بين مرحلة وأخرى، سواء في عمليات النقل أو التوزيع أو التسويق. مع ملاحظة أن الأفكار الأكثر نجاحا هي التي تقدم شيئا جديدا تفتقر إليه الأسواق ويحتاج إليه الناس. وليتأكد الشباب أن الحياة تسع الجميع, وهي مليئة بالفرص المتجددة. عندما ظهر الهاتف الجوال في حياتنا، استطاع بعض الشباب أن يكتشفوا بحس سباق أن سوقا واعدة قد انطلقت، فنفذوا إلى داخل دائرة نشاط هذه التجارة الوليدة بعمل بسيط انتهى ببعضهم إلى أن أصبحوا من كبار الموزعين ( الحداد مثالا). وقبل نحو عقدين ظهر في حياتنا خدمة نقل السيارات من مدينة لأخرى، وكانت فكرة جديدة، حققت لمن عرف كيف يكتشف مبكرا حاجة الناس إليها مشروعا باهرا وناجحا. ومثل هذه الأفكار لا تحتاج في البداية إلى رؤوس أموال طائلة، فكل كبير يبدأ صغيرا, كما قدمت في أول كلامي. إن شراء شاحنة نقل متوسطة أصبح أيسر كثيرا مما كان في الماضي، ويمكن أن يشترك عدة أصدقاء أو أعضاء في العائلة في شراء أول شاحنة. لكن هناك بعض الأذكياء الذين طوروا هذه الفكرة، عندما لاحظوا أن الناس تحب أن تتسلم سيارتهم من المطار حال وصولها، فعمدوا إلى مد الخدمة مباشرة للمطارات، أو قريبا منها.
كنت قد قابلت قبل فترة واحدا من طلبتي، وأسعدني عندما أخبرني أنه لم ينتظر الوظيفة، ولكن الصدفة الجميلة قادته لاكتشاف فرصة عمره! إذ وجد أن هناك حاجة لنقل البضائع من ميناء جدة إلى مخازن التجار في المدينة نفسها، فاشترى شاحنة مستعملة بدأ بها نشاطه وبعد ثلاث سنوات أصبح لديه سبع شاحنات!
لذلك نحن اليوم بحاجة إلى معاهد تعلم الشباب والشابات كيف يفكرون وينشئون مشاريعهم الخاصة الصغيرة، وهذه المعاهد بذاتها هي فرصة تجارية لرجال الأعمال، كما أنها في الوقت نفسه فرصة لعمل خيري يمكن أن تقوم به تلك الثلة من رجال الأعمال الذين يتصفون بالحس الوطني والشعور بالمسؤولية الاجتماعية، فيقيمون مثل هذه المعاهد على أسس إدارية عالية الكفاءة لكن دون أن يكون هدفها الربح، بل يكفي أن تغطي تكاليفها. وإذا آمنا بأن مثل هذه الترتيبات ستساعد على تخفيف حدة البطالة، فإننا في حاجة أيضا إلى جهة حكومية ترعى أصحاب المنشآت والمشاريع الصغيرة وتقوم بتذليل الصعوبات الإدارية كافة التي يمكن أن يصادفوها وتحميهم من تصرفات صغار الموظفين الحكوميين. ألا يستحق شبابنا أن تكون لهم هيئة لتشجيعهم وتذليل العقبات أمامهم, كما لنا هيئة لجذب رؤوس الأموال الأجنبية؟
المجتمع الذي يتمتع بوعي عام في عالم المشاريع الخاصة الصغيرة، يغدو أكثر صحة وتنافسية، وعلى المدى الطويل يصبح أسرع نموا.