الاقتصاد السلوكي وتفسير قراراتنا
يبحث الاقتصاد السلوكي في تجسير العلاقة بين الاقتصاد التقليدي وعلم النفس، وكيف تؤثر العوامل النفسية والاجتماعية في قراراتنا الاقتصادية.
أبرز جوانب الاقتصاد السلوكي التي يمكن أن تفسر كثيرا من قراراتنا الاقتصادية هو "خرق الافتراضات العقلانية"، حيث تُضعف الانحيازات الذهنية القدرة على اتخاذ قرارات منطقية.
مثل مغالطة مؤشرات السوق، باستمرار الاستثمار في مشروع فاشل بسبب المبالغ المنفقة سابقاً، ما يؤدي إلى تمسك كثيرين بقرارات خاطئة كالاحتفاظ بأسهم في شركة بانتظار أن يسترجع المستثمر ما أنفقه سابقاً، رغم أن المؤشرات تقول إن الشركة بعيدة عن استعادة مراكزها السابقة، ورغم نصائح المختصين بالخروج أو توقعات أسعار متدنية قادمة. كما أن من مؤشرات تأثير الانحياز الذهني تفضيل المكافآت الفورية على مكافآت أكبر متوقعة في المستقبل.
نظرية "التحفيز" هي إحدى مخرجات الاقتصاد السلوكي، وهي تعني تصميم خيارات تدفع الأشخاص إلى اتخاذ قرارات أفضل دون منع الخيارات الأخرى، مثال ذلك جعل الاشتراك في خطط التقاعد التلقائي هو الخيار الافتراضي مع وجود خيارات أخرى. ونظرية "التأطير" تعني العمل على توجيه المستهلك إلى الشراء بناء على عرض المعلومات في إطار يحفز قراراتهم، مثل ذكر أن المادة الغذائية خالية من الدهون بنسبة 95% بدلاً من وجود 5% دهون.
ينتج عن دراسات الاقتصاد السلوكي استخدامات عديدة في السياسات العامة مثل تحسين برامج الادخار التقاعدي أو تشجيع التبرع بالأعضاء عبر تغيير الخيارات الافتراضية، كما تهتم الشركات بتصميم عروض ترويجية مبنية على مخرجات الاقتصاد السلوكي مثل العروض محددة المدة. كما يمكن الاستفادة من الاقتصاد السلوكي ومخرجاته في تشجيع أنماط صحية معينة عبر رسائل تحفيزية مبنية على سلوكيات حقيقية.
ومثل غيرها من المجالات، يدخل الذكاء الاصطناعي في دورة الاقتصاد السلوكي من خلال توقع السلوكيات المعقدة والتي ينتج عنها غالباً تطبيق مفاهيم التوفير التلقائي. تطبيق "Cleo" مثلاً يحلل إنفاقك ويقدم لك التوصيات حيال التوفير الذي تستطيع أن تحققه قبل أن تنفق. يقع ضمن المجال اختبار ردود فعل المستخدمين، حيث تقدم برامج البيانات الضخمة عددا من التصاميم للإشعارات أو الإعلانات لتحديد أيها أكثر تأثيراً في المستهلك وأنجح في بيع السلعة. تحقق عمليات التتبع العصبي من خلال قياس الاستجابات اللاواعية مثل مراقبة حركة بؤبؤ العين لإعادة تصميم المتاجر الإلكترونية.
هناك تطبيقات مهمة في مجالات الاقتصاد السلوكي ومن ضمنها مكافحة الفساد عبر الدفع الرقمي، حيث قامت أوغندا بتحويل جميع عمليات الدعم الحكومي إلى المحافظ الرقمية بدل النقد، وهو ما حقق انخفاضا بنسبة 47% في سرقات التحويلات بسبب شفافية المسارات المالية. ومن التطبيقات المهمة قيام شركة ميتسوبيشي بتزويد سياراتها بأجهزة استشعار تصدر نغمة مزعجة عند القيادة بتهور، ما أدى إلى انخفاض بنسبة 53% في الحوادث، رغم أن السائقين لا يعلمون سبب تغير سلوكهم. هناك كثير من التطبيقات السائدة مثلما في المجال الفني، الذي يتم من خلاله الربط بين الذائقة الفنية وما يقدم بناء على ذوق الشخص. من ضمن الانحيازات الجديدة "وهم الشفافية"، ومن أمثلته الاعتقاد بأن منصات التواصل تعكس الواقع، وهو ما يؤثر في صغار السن بشكل أكبر.
مما سبق يتضح أن هناك إشكالية أخلاقية عند استغلال الاقتصاد السلوكي في تشكيل فكر المستهلك والتأثير في خياراته، لكن يبرز دور مهم للتجارب الإيجابية والتي يجب أن تحفز، ومثال ذلك السيطرة على مخاطر الانحيازات الذهنية. ولشركة الاتصالات السعودية تجربة مهمة، حيث قدمت الشركة برنامجا تدريبيا للموظفين بعنوان "جرب ثم قرر"، حيث يُعتبر أي مشروع جديد تحت التجربة لمدة 90 يوماً فقط، وإذا لم يحقق المشروع 70% من توقعاتنا يتم الانسحاب منه فوراً، وهو ما أدى إلى خفض نسبة المشاريع الفاشلة 38%، وهنا استخدام لمفهوم تجاوز "خرق الافتراضات العقلية"، حيث لا نعتبر الانسحاب دليل فشل، وإنما كفاءة قرار.
كاتب اقتصادي