خفض الرسوم مقابل التزامات دفاعية .. معادلة جديدة للتجارة في عهد ترمب
التصدي للصين وإعادة تشكيل القواعد العالمية جزآن من معادلة جديدة تخدم مصالح الولايات المتحدة
- واشنطن تربط بشكل علني الأمن الوطني بنجاح الصفقات
- أبرم البيت الأبيض اتفاقات مع إندونيسيا والفلبين واليابان تمنحها رسوماً جمركية أقل مقابل تعهدات بشأن الدفاع والأمن الوطني
- يُعدّ التصدي للصين وإعادة تشكيل القواعد العالمية بما يخدم الولايات المتحدة جزءاً من هذه المعادلة
لقد دخلنا عصراً مظلماً لاتفاقات التجارة، حيث باتت واشنطن تربط بشكل علني الأمن الوطني بنجاح الصفقات، وإذا أرادت الدول الحصول على رسوم جمركية أقل، فعليها تلبية مطالب الرئيس دونالد ترمب الدفاعية.
تؤتي هذه الإستراتيجية ثمارها، فقد أبرم البيت الأبيض الأسبوع الماضي اتفاقات مع إندونيسيا والفلبين واليابان، مانحاً إياها رسوماً أقل من تلك التي هدّد بها ترمب، وفي المقابل، اضطرت هذه الدول إلى توقيع التزامات بصياغات غامضة تتعلق بالدفاع والأمن الوطني.
قائمة الدول التي انخرطت في مفاوضات مع واشنطن قبل الموعد النهائي في 1 أغسطس
يشير بوب سافيتش، رئيس قسم استشارات التجارة الدولية والعقوبات في "معهد السياسات العالمية" (Global Policy Institute) في لندن، إلى أنّ هذا يمثّل تحولاً حاداً عن الأعراف الدبلوماسية التقليدية. وقال لي: "أعادت إدارة ترمب تعريف السياسة الأمريكية من خلال ربط الاتفاقات الاقتصادية بشكل صريح بالأمن الوطني".
معادلة جديدة لخدمة مصالح أمريكا
وأضاف أنّ "الهدف الأساسي للبيت الأبيض هو استغلال القوة الاقتصادية الأمريكية لحماية مصالحها الإستراتيجية وتعزيزها". ويُعدّ التصدي للصين وإعادة تشكيل القواعد العالمية بما يخدم الولايات المتحدة جزءاً من هذه المعادلة.
تحقق هذه الإستراتيجية مكاسب على المدى القصير، خصوصاً في مواجهة الصين، لكنها تأتي بتكلفة على المدى الطويل، فقد أضعفت الثقة بالقيادة الأمريكية، ونفّرت الحلفاء، وسرّعت وتيرة إنشاء تكتلات اقتصادية منافسة. ويُعدّ توسيع مجموعة "بريكس" للدول الناشئة المثال الأحدث على ذلك. فالمجموعة، التي أُنشئت أصلاً كبديل للنظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، أصبحت أكثر جاذبية في ظل الحرب التجارية.
ويُبدي القادة الآسيويون استياءً خفياً من أساليب البيت الأبيض القسرية، وفي اجتماع وزراء الخارجية الأخير في كوالالمبور، ومن دون الإشارة صراحة إلى الولايات المتحدة، قال رئيس وزراء ماليزيا، أنور إبراهيم، "إنّ العالم يشهد الآن عصراً تزعزع فيه القوة المبادئ، وإنّ "الأدوات التي كانت تُستخدم سابقاً لتحقيق النمو باتت تُستغل الآن للضغط والعزل والاحتواء".
عملية تفاوض فوضوية
كما فعل مع الهند وباكستان، تدخّل ترمب أيضاً في الصراع بين تايلاندا وكمبوديا، الذي أودى بحياة العشرات وشرّد عشرات الآلاف، محذّراً من أنه لن يُبرم اتفاقاً تجارياً مع أي من البلدين في حال استمر النزاع. ويوم الإثنين، اتفق الطرفان على وقف الأعمال العدائية والعمل على التوصّل إلى حل دبلوماسي.
وتتّسم عملية التفاوض الحالية بالفوضى وتُقابَل كثيراً بالاعتراضات، كما يتضح في المحادثات بين الولايات المتحدة واليابان. فقد تباهى الرئيس الأمريكي على وسائل التواصل الاجتماعي بأنّ طوكيو وافقت على شراء "معدات عسكرية وغيرها بقيمة مليارات الدولارات"، إلا أنّ كبير أمناء مجلس الوزراء الياباني يوشيماسا هاياشي قال "إنّ مشتريات معدات الدفاع الأمريكية الإضافية ليست طلبيات جديدة، بل تستند إلى سياسة المشتريات الحالية".
وظهر نمط مُربك مماثل مع الفلبين. فقد قال ترمب "إنّ البلدين سيعملان معاً عسكرياً". ولاحقاً، أوضح السفير الفلبيني لدى الولايات المتحدة، خوسيه مانويل روموالديز، أنّ المناقشات تدور حول إنشاء مصنع للذخيرة في خليج سوبيك، الذي كان في وقت من الأوقات ثاني أكبر منشأة عسكرية أمريكية خارج البلاد. ويقول الزعيم الأمريكي "إنّ المشروع سينتج ذخيرة أكثر من إنتاج أي دولة على الإطلاق".
فوائد الاتفاقات مائلة لصالح واشنطن
مرة أخرى، تبدو الفوائد في الغالب مائلة لصالح كفة واشنطن. أما بالنسبة إلى مانيلا، فإنّ هذا يُمثّل تراجعاً حاداً عن قرارها إخراج القوات الأمريكية من سوبيك 1992. ومن غير المرجّح أن يتفهم الرأي العام المحلي الرئيس فرديناند ماركوس الابن، الذي تحاول حكومته الترويج للأمر كإنجاز، رغم المخاوف بشأن استفزاز الصين.
أيضاً، تطرّق اتفاق إندونيسيا إلى قضايا الأمن الوطني، حيث وافق الجانبان على تعزيز سلاسل الإمداد ومواجهة "الممارسات التجارية غير العادلة" - وهي عبارة مشفّرة تُشير إلى الصين. وبينما لم تؤكد فيتنام رسمياً بعد شروط اتفاقها (رغم أنّ ترمب قد أعلن بالفعل نسخته الخاصة)، تُبرز وثيقة اطّلعت عليها "بلومبرغ نيوز" مدى تركيز السياسة الجمركية الأمريكية على كبح نفوذ بكين.
يبدو أنّ النموذج المتّبع في ذلك هو الاتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، المُوقّع في مايو، والذي يُعدّ أولى الصفقات التي تعهد بها ترمب. وقد تضمّن متطلبات أمنية صارمة لصناعات الصلب والأدوية البريطانية، بذريعة إبعاد الصين. وفي المقابل، جاء الاتفاق التجاري بين المملكة المتحدة والهند، المُوقّع الأسبوع الماضي، كاتفاق تقليدي ألغى الرسوم الجمركية على منتجات تراوح بين السيارات والكحول.
الولايات المتحدة المصدر الأكبر للاستثمار الأجنبي المباشر في دول رابطة آسيان في 2023
قد تبدو الدول الآسيوية منسجمة مع هذا النهج في الوقت الحالي، لكنها تدرس خيارات أخرى. فالولايات المتحدة تُعدّ مصدراً رئيسياً للاستثمار الأجنبي المباشر في منطقة رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) التي تضمّ 10 أعضاء، حيث تنشط أكثر من 6 آلاف شركة أمريكية في المنطقة.
ليست عاصفة عابرة
مع ذلك، فقد نمت التدفقات التجارية بين الصين وآسيان خلال السنوات الـ15 الماضية، وأصبح كل طرف الشريك التجاري الأكبر للطرف الآخر. كما تنمو الروابط التجارية بين اليابان وكوريا الجنوبية والهند بوتيرة قوية أيضاً.
يصعب استبدال المستهلك الأمريكي، لكن الدول تتأقلم. فهي تُراعي الأولويات الأمريكية في الأمن الوطني بشكل انتقائي في مجالات مثل أشباه الموصلات والمعادن الحيوية، بينما تسعى للحفاظ على مصالحها الذاتية حيثما أمكن. وكما قال لي أحد رجال الأعمال الإندونيسيين: "هذا يُشبه الاستعمار. نحن نفعل ما تريده الولايات المتحدة - كارهين".
من غير المرجّح أن يعود العالم إلى النموذج القديم للتجارة المنفصلة عن الجغرافيا السياسية. فقد قال أنور، رئيس وزراء ماليزيا: "هذه ليست عاصفة عابرة، بل هي المناخ الجديد لعصرنا، وعلينا جميعاً أن نتأقلم مع هذا المناخ المتغير، والعواصف المقبلة التي سترافقه".
كاتبة عمود في "بلومبرغ" تغطي السياسة الآسيوية مع التركيز بشكل خاص على الصين. كانت مذيعة "بي بي سي" الرائدة في آسيا وعملت لدى "بي بي سي" في جميع أنحاء آسيا وجنوب آسيا لمدة عقدين من الزمن سابقا.
خاص بـ "بلومبرغ"