الاقتراض بهدف الاستثمار
أصبح الائتمان في المملكة مسرحا متنوعاً في السنوات الأخيرة بعد أن كان نخبوياً حتى نهاية القرن الماضي ومحدد الأهداف والمنتجات، وهو أمر طبيعي نتيجة البيئة التي تعمل فيها المؤسسات المالية ومستوى التنمية المطلوبة في حينه. ومع بزوغ القرن الحالي تغيرت الصورة بشكل كامل تقريبا ودراماتيكي إلى درجة أن أصبح هناك تذمر كبير بسبب تراكم الديون على الأفراد من مختلف شرائح المجتمع. وهذا أمرُ لا يمكن إطلاق حكم عليه بالإيجاب أو السلب إلا بعد دراسة التجربة بعناية من قبل المختصين والجهات المسؤولة عن هذا الموضوع أو من المراقبين للشأن الاقتصادي المحلي، وكلي أمل ألا يتحدث عن الموضوع غير ذوي الاختصاص الذين يملكون أدوات التحليل العلمية لمثل تلك المواضيع ولديهم تفاصيل كاملة لحيثياتها. لأن غير هؤلاء قد يسعون بحسن نية إلى خلق رأي عام سلبي في الوقت الذي يعتبر الأمر ذا جانب إيجابي ومهم والعكس قد يكون صحيحاً.
يجب علينا أن نتعلم الكثير من هذه التجربة على الصعيدين العام والخاص. فعلى الأفراد أن يعوا الدرس جيدا من تجربتهم الشخصية، وأما على مستوى الاقتصاد الكلي فيجب أن نتعلم من التجربة كيف يمكن التحرك وقراءة الأحداث المستقبلية بشكل عميق وفني بعيدا عن كل المعطيات الأخرى. وقد كانت أهم معالم التغير التي شهدناها في السنوات الثلاث الماضية هي قضية الاقتراض "الشخصي" بهدف "الاستثمار"!
وأقصد طبعاً كل أنواع "الاستثمار" حيث إن هناك من حصل على "قروض شخصية" وربط نفسه بديون لسنوات قادمة بهدف الاستثمار في سوق الأسهم أو في المساهمات الوهمية باختلاف تسمياتها، من العقارية إلى البيض والبطاقات مسبوقة الدفع (سوا). وهي قضية ذات بعد مهني تحتاج إلى كفاءات مدربة حتى يتسنى لها (أي الكفاءات) الدخول في مجاهلها، فالاقتراض بهدف الاستثمار يجب أن يخضع قبل الدخول فيه إلى أمور عديدة كحساب العائد والتكلفة ومختلف المستويات أو الفترات وليس مجرد ثرثرة وكلام مجالس. وقد اتٌهمت البنوك بتوريط الأفراد بهذه القروض من خلال الإعلام دون استثناء، ونحن هنا لا نزكي على الله أحدا. ولكن نقول لنتوقف قليلا ونحلل المشكلة بشكل دقيق قبل إطلاق الأحكام. وفي هذه القضية على وجه الخصوص أكتب هنا من موقع العارف وليس المراقب أو المشاهد أو السامع، حيث إن أكثر من 100 في المائة من القروض الممنوحة كقروض شخصية منحت حسب رغبة العملاء الذين أكدوا أنها قروض شخصية، وبالتالي فإن المؤسسة المالية أياً كانت لا تملك إلا الموافقة إذا كانت الطلبات موافقة لشروطها. وأما بالنسبة لحصول العملاء على قروض يفترض ذهابها لأغراض شخصية بغض النظر عن مدى سلامة مفهوم الاستهلاك من خلال القروض الشخصية، فهذه قضية أخرى يمكن مناقشتها في مقال آخر. ولكن أن تأخذ قرضا تحت اسم "قرضا شخص" ويتم وضعه في استثمار سواء سوق الأسهم أو مساهمات أو حتى فتح بقاله!!! هنا أعتقد يقع الإشكال وسوء التصرف المالي في إدارة الاستثمار المؤسسي أو الشخصي!
استطراداً في بعض التفاصيل، يوجد مع الأسف الشديد نقص كبير في المنتجات التمويلية وهو أمر نعزوه إلى عدم اكتمال الإجراءات التي تكفل لمقدمي الخدمات المالية تقديم تلك المنتجات المطورة للتمويل الذي يحتاج إليه المستثمرون، الأمر الذي دفع بالكثيرين إلى اللجوء للقروض الشخصية لتحقيق طموحاتهم سواء مشاريع أو استثمارات أو حتى شراء أو إنشاء مسكن له ولعائلته (كمنتج وحيد متوافر وسهل الحصول عليه بضمان الراتب).
وإذا ما عدنا إلى قضية الاقتراض بهدف الاستثمار فإننا نجد أنها ترتكز على عناصر مهمة ينبغي للأفراد وأيضا للشركات والمؤسسات التجارية معرفتها قبل الدخول فيها. وأهمها وجود الرؤية الواضحة والرابط المجدي بين الاقتراض (التمويل) والتبعات التي تأتي من هذا الاقتراض وبين الاستثمار المراد وعوائده وعمر الاستثمار نفسه مقارنة بكيفية تمويله عن طريق قروض.
وحتى يمكن للمؤسسات المالية توفير المنتجات المالية بشكل علمي ومطور يتناسب مع الاحتياجات المتزايدة وبالتزامن مع التطورات الاقتصادية التي تشهدها المملكة، هناك بنية تحتية لم تكتمل، وهي ليست مسؤولية المؤسسات المالية فقط. ولكنها مسؤولية الأجهزة الحكومية بمختلف اختصاصاتها ذات العلاقة أيضا (المسؤولية مشتركة). لقضية الاقتراض (التمويل) ثلاث ركائز مهمة لا بد من توافرها للمؤسسات المالية حتى تستطيع التوسع فيها ومن ثم التقليل من التوسع في القروض الشخصية ومخاطرها. الركيزة الأولى هي وجود قاعدة بيانات مركزية credit bureau التي من خلالها تستطيع تلك المؤسسات المالية بناء السياسات الائتمانية وتطوير إدارات المخاطر بناء على قواعد المعلومات تلك. وهو الأمر الذي أدركته البنوك منذ زمن وعملت بشكل مكثف على إنشاء الشركة السعودية للمعلومات الائتمانية (سمة). وهي الآن تحقق تقدما ملحوظا في ظني لتقديم خدمات للقطاعات المختلفة وليس للقطاع المصرفي فقط. وأعتقد أن القادم أقوى وأفضل.
الركيزة الثانية هي وجود مكتب أو شركة أو إدارة (لا يهم الشكل القانوني) ذات مرونة وعقلية متقدمة "لتسجيل الرهن" بمختلف أنواعه (المنقول وغير المنقول) سواء كانت عقارية أو أجهزة أو سيارات أو حتى أثاث. بمعنى تسجيل كل الأشياء المنقولة وغير المنقولة التي يمكن رهنها لتحقيق إمكانية الحصول على التمويل وبالذات إذا كان هدف التمويل هو الاستثمار في مشاريع على اختلاف مستوياتها كبيرة، متوسطة أو صغيرة مثل المشاريع المهنية وغيرها كثير. وهي ركيزة إلى اليوم لم يتم إنشاؤها وتفعيلها، وآمل أن يلتفت لها بشكل سريع. وسوف تسهل الكثير من إجراءات منح التمويل الذي يحتاج إليه الجميع وهناك شح واضح رغم توفر السيولة وعدم وجود قنوات كافية للقطاعات الممولة الحكومية منها والخاصة لتحقيق أهدافها والأهداف الكلية.
الركيزة الثالثة هي تفعيل الجانب النظامي والقانوني وحماية الحقوق... وهي قضية لا أود التعليق عليها وتكفي الإشارة إليها لفهم أهميتها والقصور في هيكلها.
إن عدم اكتمال البنية التحتية، يؤدي إلى بناء الأدوار العلوية قبل اكتمال الأساسات الأرضية، وهو ما يبدو أننا نسير فيه بشكل سريع جداً بكل أسف. وبالتالي كان من المنطقي أن يكون لدينا خلل في معادلة العرض والطلب حيث إن نسب الأموال الممنوحة من قبل صناديق التمويل المختلفة وبالذات الأجهزة الحكومية (أكثر من 9 مليارات ريال أموال مرصودة للتمويل) لا تتجاوز 5 في المائة فقط من إجمالي الأموال المرصودة من قبل الدولة بسبب غياب الآليات التي تساعد على منح القروض بثقة وضمان للحقوق التي في الوقت ذاته تساعد المستهدفين على تحقيق أهدافهم الاستثمارية والشخصية. إذا كانت إدارات صناديق التمويل الحكومية غير مستعدة للمخاطرة في منح الائتمان بهدف الاستثمار في ظل غياب التشريعات اللازمة والبنية التحتية الأساسية التي تساعدها لحماية حقوقها، وقد تكون محقة في ذلك فهي مؤتمنة على الأموال، فكيف نتوقع من مؤسسات التمويل الخاصة (البنوك وغيرها) التي لديها معادلة التكلفة والعائد وعنصر المخاطرة أن تكون مغامرة برؤوس أموال هي لا تملكها؟