كورونا مشكلة محلية .. لا تعالج مركزيا
مشكلتنا في الإدارة الحكومية أننا ما زلنا إلى الآن نتبع نهج المركزية والبيروقراطية الشديدة ولا نفرق بين القضايا المحلية والقضايا الوطنية. كثير من الموضوعات والأولويات المحلية تركت تكبر وتتضخم إلى أن تحولت إلى أزمات واهتمامات وطنية. والسؤال لماذا لا تتم معالجة القضايا والمشاكل المحلية محليا وفي حينها ووأدها في مهدها قبل أن تستفحل وتتحول إلى طود كبير وتستنزف الوقت والجهد والمال والأرواح؟ والجواب بكل بساطة ووضوح ليس هناك هيئة محلية مسؤولة عن إدارة الشأن المحلي مسؤولية شاملة لجميع القطاعات! لكن أليست المجالس البلدية في المدن والمجالس المحلية في المحافظات ومجالس المناطق هيئات محلية؟ بلى ولكنها مجالس منزوعة الصلاحيات ضعيفة السلطات ضيقة الأدوار. على سبيل المثال المجالس البلدية هي في واقع الأمر بمثابة لجنة شعبية ملحقة بالأجهزة البلدية ومعنية فقط بالخدمات البلدية التقليدية من إنارة ورصف للطرق وجمع النفايات وتخطيط الأراضي والصحة العامة ولا يدخل ضمن اختصاصاتها الجوانب الأمنية والتعليمية والصحية والنقل والشؤون الاجتماعية. كما أنها لا تتمتع بالاستقلال المالي والإداري وإنما صلاحيات استشارية. ولذا فإن تسميتها لا تدل على حقيقة دورها المقتضب فهي غير مسؤولة عن إدارة البلدة أي المدينة بجميع قطاعاتها. هذا الغياب المؤثر والخطير لهيئة محلية تدير المدينة بشمولية وضعف الصلاحيات كما في تنظيمات المجالس الأخرى على مستوى المحافظات والمناطق يجعلان من الصعب رعاية مصالح السكان في المحليات والمحافظات والمناطق، سواء من حيث توفير الخدمات العامة المحلية ومعالجة المشكلات والتصدي للتحديات أو وضع التشريعات والسياسات واستراتيجيات وخطط تنموية ومبادرات تطويرية ترتقي بمستوى المنطقة والمحافظة والمدينة اقتصاديا وصناعيا واجتماعيا وثقافيا وتحدد التوجهات المستقبلية. وفي هذا السياق يجب الاعتراف بأن الأجهزة المركزية مهما أوتيت من قدرة ورغبة في إدارة الشأن المحلي لن تستطيع التعامل مع كل صغيرة وكبيرة في كل شبر من هذا الوطن القارة. وإن كان ذلك ممكنا فيما مضى حينما كان عدد المدن وسكانها قليلا ومستوى المعيشة متواضعا وتوقعات الناس محدودة والتغيرات البيئية العالمية بطيئة وغير مؤثرة بدرجة كبيرة، إلا أنه لا يمكن الاستمرار على النهج ذاته في الوقت الحاضر. لقد أصبح من الضروري تضييق نطاق الإشراف بالتأسيس لهيئات محلية كاملة الصلاحيات والمسؤوليات تكون مسؤولة مسؤولية مباشرة أمام السلطات المركزية عن تنمية وتطوير والضبط الاجتماعي في المدينة أو المحافظة أو المنطقة. إن نطاق الإشراف أمر في غاية الأهمية لأنه السبيل لإحكام السيطرة على المجتمعات المحلية من خلال إدارتها من قبل سكانها وجعلهم مسؤولين عن الحالة التنموية والأمنية ومستوى الخدمات بدلا من الوضع الضبابي في المحليات الذي يستغله بعض ضعاف النفوس والمارقين والخارجين عن الصف الوطني في التخفي وإظهار خلاف ما يبطنونه.
المسؤولية المحلية هي الحل الناجع لأكثر المشكلات التي تواجه المجتمع لأن تمكين السكان المحليين من إدارة شؤونهم لا يحقق فقط مشاركة فاعلة للمواطنين في جهود التنمية ويجعلهم يتملكون قضاياهم ويجعلهم في المحك وينقلهم من متفرجين اتكاليين إلى لاعبين فاعلين وإنما أيضا يسهم في تحديد المسؤولية ومواقع الخطأ بالسرعة المطلوبة بما يفي بالاستجابة إلى متطلبات المجتمعات المحلية. الهيئات المحلية تجعل المسؤول يقترب من المواطن ويكون أكثر تفهما وحرصا على معالجة مشكلاته التي يعانيها مثل البطالة، الإسكان، العنوسة، الفقر، جودة وسهولة الحصول على الخدمات وغيرها. كما أنها في المقابل تتيح الفرصة للمواطن لتقديم المقترحات والحلول والمساهمة في تجنب وقوع المجتمع المحلي في الأخطار وإدارة الأزمات. ولذا لم يعد كافيا تقديم الخدمات العامة وحسب، ولكن لا بد أن تكون بالكمية والنوعية والجودة والوقت المناسب، إضافة إلى إسهامها في التنمية المحلية. لقد أصبحت الكلمة السحرية في جهود التطوير والإصلاح الإداري "التكيف". وتحقيق التكيف إنما يكون بسرعة الاستجابة من قبل المسؤولين عن دراية وعلم ورغبة، وهذا ما لا يتيحه النهج الإداري المركزي. إن قضية الأمراض الوبائية على سبيل المثال التي أصبحت تتكرر في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ ومخيف تستحق الوقوف عندها وفهمها وتحليلها من منظور مؤسسي وإطار تنظيمي وليس فقط من زاوية صحية فنية ضيقة. لأن الأمر يتعلق بكيفية صنع القرارات العامة وتحديد وتوزيع المسؤوليات والأدوار المطلوبة على نطاقات هرمية مكانية ووضع معايير لتقييم الأداء ووسائل للمراجعة والمساءلة والمحاسبة. وهذا ما تحققه الهيئات المحلية بكفاءة وفاعلية بصورتها المثالية. فالمدن مكان الفعل والحدث الاجتماعي، فهذه الأمراض الوبائية تنشأ وتنتشر في أحياء المدن ولو تم اكتشافها والتعامل معها في لحظتها على المستوى المحلي لتم القضاء عليها أو على أقل تقدير التقليل من انتشارها. إن مثل هذه الأوبئة تأتي ضمن إدارة المخاطر والأزمات والطوارئ والتحسب لها وهي تتطلب خططا وسياسات محلية وإعداد مسبق لمواجهتها. هذه المهمة تقع ضمن مهام واختصاصات الإدارة المحلية وتتطلب تضافر الجهود بين الأجهزة الحكومية والمنشآت الخاصة والمؤسسات الأهلية لأنه لا يمكن مواجهتها من قبل جهاز حكومي بمفرده. وهذا يوضح أهمية وجود هيئة محلية لإدارة المدينة شموليا تكون بمثابة مظلة ينضوي تحتها جميع مكونات المجتمع المحلي.
لقد حان الوقت لمواجهة المشكلات الاجتماعية بعمق وإعادة النظر في هيكل الإدارة العامة والتحول إلى نهج اللامركزية، حيث تتولى الوزارات المركزية إعداد وتنفيذ الاستراتيجيات والتشريعات والسياسات الوطنية بينما تتولى الإدارات المحلية بمستوياتها المختلفة ما يتعلق بنطاقها الجغرافي. هذا التمييز أمر ضروري لأنه يحقق التخصصية في أداء الأعمال الحكومية. فلا الوزير مطالب بأن يلاحق كل شاردة وواردة تستهلكه القضايا الصغيرة ويلهث وراء إطفاء الحرائق هنا وهناك على حساب مهمته الرئيسة وهي التفكير الاستراتيجي المستقبلي، ولا الإدارات المحلية تقف موقف المتفرج بسلبية تامة دون أدنى مسؤولية. فمتى نعرف أن كورونا وما شابهها هي مشكلات محلية.. لا تعالج مركزيا!