وجع الخروج .. ومهنة الواقع
حين كتبتُ عن - ابن الستين - الحائر بين قلبه وحزنه وشتاته.. كنت ككل واحد منكم لا أعرفه.. ولم يُتَحْ لي أن ألتقيه.. إلا أني قبضتُ قبضة من مرارة نفسه، وحزن قلبه، وتلك السابلات من دمعه، والباديات لضعفه.. وقلة حيلته..! فكتبتها رواية بلسان المكلوم الذي يطويه حزنه صمتا، ويواريه خجله شعورا بذنب لم يقترفه، رغبة مني في أن يصل إليه من خلالي مشاعركم النبيلة الطاهرة والرحيمة به، ليعلم هذا الطهر العظيم في نفوسكم، وهذه الرحمة المفتوحة لابنته بالعودة إليه مجللة بمغفرة وتسامح، لم يكن بوسعه أن يبلغ إليه صوتكم ورحمتكم ومغفرتكم إلا من خلالي وبي، حين أنزلتُ نفسي منزلة نفسه فيما أوجعه وكشفه البكاء وانعدام الحيلة.
في كل مرة أجد في نفسي رغبة وميلا- للذات الواحدة- للجسد الواحد الذي إن اشتكى منه عضو، نهضت سائر الأعضاء بالسهر والترقب؛ لذا رأيتُ أن أكتب إلى ابنته التي لن تخرج بحال عن كونها- أختنا جميعا- وابنتنا جميعا- وشأنها يعنينا جميعا، وإن بعض الذنوب قريبة من المغفرة، دانية من الرحمة، وبعضها عنها بعيد.
توالت علي ردود فعل شرسة الغضب، رأيتُ فيها ما لا أتمناه لهم- الشماتة في مُبتلى- فأيكم يأمن ألا يبتليه الله بمثل ما ابتلى به غيره. وإن الأيام يداولها الله بين الناس، وكما تدين تدان، والله غالب على أمره، وما الابتعاث بسبب تام لما جرى، فإن الرزية إن قصدت عبدا أصابته ولو كان بئرا معطلة، وجبلا غير مطروق، فلا راد لقضاء الله، ولا صارف لقدره.
لن أنصب نفسي قاضيا يقرر حكما غاب عنه خصومه، إلا أن الاستدلال بالشواهد الحاضرة، تنتهي بنا للتذكير أن مفهوم الشريعة في حياة كل مسلم هي حاكمية- أحكام الله- على الحياة والسلوك. وبذا ينبغي أن تُعالج الأمور بالسبل الصحيحة التي قررها الله ورسوله. وليس من اليسير أن نجعل- العضل- على فرض وقوعه سببا في اقتحام الحرمات، أو سببا في ثورة الأنا.. الموجبة لتحطيم مكانة أسرة بتمامها في وسطها الاجتماعي.
إن القاضي في الشريعة هو الذي تنتقل إليه الولاية عند عضل البنت من قبل أبيها، ويقوم القاضي حينئذ بتزويجها وفق الأصول الثابتة والمستقرة بالعدل ورفع الضرر والظلم عنها، وبوصف الولاية منوطة بالمصلحة حصرا، فإن تصرف الولي بخلاف المصلحة سقطت ولايته سقوطا تاما، وزالت زوالا كليا، إلا أن هذا لا يجعل من الفتاة لقمة سائغة لكل فم ذلق اللسان خبيث السريرة، سيئ الغاية.
بل جعل لها حماية بسبل الاستظهار التي يسلكها القاضي في بيان حال الخاطب، وصلاحه وأهليته في حمل الأمانة وصيانتها.
في مجتمع يشح فيه التعبير عن العواطف، ويقل في الأسرة المكاشفة بالحب، ويعيش في فضاء مفتوح متناقض تماما معه، في الاستغراق الحسي، والعاطفي، والغرائزي.. يجعل مزالق الفتاة العاطفية أكبر، وسقوطها أسهل.. والقدرة على الحكمة في القرار أصعب.
ولذا لا يرغب أحد أن يؤسس لقاعدة أن الفتاة تقرر منفردة الزواج خارج دائرة الأسرة، وبالتمرد على سبل الولاية الواجبة على المسلمة، وبتقديم الذات على تدمير المكانة الاجتماعية للأسرة والأشقاء بحسب الضوابط العرفية التي تعارف الناس عليها.
ليس بي رغبة أن أدين أختنا وابنتنا مطلقا. ولعلي ألتمس لها مغفرة تسلك بها طريقا رحيما إلى أسرتها الكريمة وعائلتها التي لن تجد أرحم عليها منهم في الكون كله، ولكني أرغب في سيادة وعي الأصول والضوابط الشرعية، وفي سيادة الفهم بالحقوق للمرأة. إن مفهوم الولاية مشروط بمصلحتها الخاصة فقط وإلا كان الأمر للقاضي المسلم العدل.
لا نبغي أن نوغل في العاطفة، حيث لا نقيل مذنبا أو نعجز عن تجريمه.. لكيلا يقع علينا وزر من "سن سنة سيئة فعليها وزرها ووزر من عمل بها إلى قيام الساعة"، ثمة ضرورة لرسم خريطة طريق لتصحيح مفاهيم الولاية على المرأة وتطبيقاتها في إطار تشريعات صريحة ونظام يفرض عدله على الجميع.
وإني في نهاية الأمر ممتن لهذا النبل العظيم الذي تبدى، وهذا الكرم الغامر الذي ظهر منكم للأسرة المكلومة. طابت فيكم الأصول، وكان عذبا زلالا نبعها، غميرة سواقيها. شكرا لكم أيها الشعب النبيلة عواطفه ومشاعره.