منظمة التجارة العالمية والاقتصادات العربية

تواجه الاقتصادات العربية العديد من التحديات التي تتطلب العمل الجماعي للتغلب عليها أهمها أزمة المياه والبيئة والعولمة والإقليمية, وغيرها, وفي إطار تحقيق التوازن بين متطلبات العولمة وضرورات الإقليمية كان أمامها خياران: إما الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية تحقيقاَ لمفهوم العولمة أو البقاء في إطار الإقليمية العربية. وقد سعت كل دولة منفردة إلى اختيار ما يتناسب مع مصالحها ومتطلبات شعوبها, إلا أنها لم تنس في النهاية أنها تنتمي إلى كيان إقليمي عربي له خصوصيته, ومن ثم يمكن أن يحقق لها مزايا اقتصادية متعددة مع الحفاظ على هويتها واستقلالها. ومن هنا كان اهتمام الدول العربية بإنشاء وحدة اقتصادية بينها من خلال السوق العربية المشتركة؛ حيث أدركت أن عالمنا المعاصر قد اتسم منذ النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي الماضي بقيام تكتلات اقتصادية وتجمعات تجارية كبيرة في مختلف مناطق العالم, فظهر اتحاد الجماعات الاقتصادية الأوروبية الذي يُعد من أقوى الاتحادات الاقتصادية على مستوى العالم, حيث اتجه إلى إذابة الحدود بين الدول الأعضاء بالسماح للمواطنين بالانتقال فيما بين هذه الدول بالبطاقة الشخصية وتم توحيد العملة الأوروبية تحت مسمى واحد (هو اليورو الأوروبي), وتم تطبيق نظام حرية تداول البضائع والمنتجات من دون قيود وغيره من التسهيلات التي تستهدف تحرير التجارة البينية بين الدول الأوروبية. ويسعى هذا التكتل الاقتصادي الدولي بخطى واسعة وثابتة ومنظمة ليصبح في القرن الحالي إحدى القوى الرئيسة الثلاث على الساحة الدولية.
لهذا فقد بُذلت مساع كثيرة على المستوى العربي لإقامة تكتل اقتصادي عربي في نطاق جامعة الدول العربية أو خارج نطاقها؛ ثم جاء إنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية العربية كخطوة مهمة لتحقيق التكامل الاقتصادي بين الدول العربية, واتخذ هذا المجلس عدداً من القرارات المهمة في هذا الصدد؛ حيث سعى إلى إقامة منطقة تجارة حرة عربية كبرى تنفذ في غضون عشر سنوات وذلك في الأول من كانون الثاني (يناير) 1998م ولكن هذه المحاولات كلها مازالت تحتاج إلى وقت ودعم متواصل حتى تتخطى بعض العقبات مثل تباين الظروف والمواقف لكل دولة.
ومن المعلوم أن الغالبية العظمى من الدول العربية قد انضمت إلى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية وأصبحت عضواً فيها, والتي أضحت أهم أدوات السياسة الاقتصادية الدولية التي تحكم العلاقات الاقتصادية الدولية في المرحلة المقبلة, فهي تُمثل أبرز سمات النظام التجاري الدولي الجديد, حيث تسعى مساعي جادة نحو تحرير التجارة الدولية بإزالة جميع العوائق الوطنية التي تعترض انسيابها.
والحقيقة أن إقامة منطقة التجارة الحرة العربية تعتبر خطوة مهمة في مجال العلاقات الاقتصادية الدولية, ولكن هناك تساؤلات مهمة تُطرح في هذا الصدد تتعلق بمستقبل هذا التكتل الاقتصادي في ظل سياسات منظمة التجارة العالمية: بمعنى هل يجب على هذا التكتل الاقتصادي أن يقوى لكي يواجه تيار العولمة بكل أبعاده المختلفة؟ أم أن عليه أن ينحسر ويبعد عن الساحة ويترك الأمر للتحرر الكامل لكل شيء؟
والواقع أن نشاط منظمة التجارة العالمية وما يتضمنه من تحرير للتجارة الدولية من شأنه أن يساعد على تقوية الاتحادات الاقتصادية الإقليمية لا إضعافها, لأن الدول التي يتكون منها الاتحاد تسعى إلى إلغاء الحواجز والحدود بينها وتعمل على انسياب البضائع والمنتجات والأشخاص دون أية عوائق ومن ثم تتحقق العولمة التي تسعى هذه المنظمة إلى تحقيقها, إذ إن الدول الأعضاء في الاتحاد تُصبح مجتمعة بمثابة منطقة تجارة حرة. ولهذا فإن إقامة منطقة التجارة الحرة بين الدول العربية من شأنها إيجاد نوع من التكتل الاقتصادي الإقليمي, الذي من شأنه أن يفتح آفاقاً اقتصادية جديدة بين الدول مجتمعة, حيث تُعاني بعض هذه الدول الآن من وجود عوائق تحول دون الانسياب الحر لصادراتها الرئيسة في الأسواق العربية والعالمية.
وأرى أنه يقع على عاتق مجلس الوحدة العربية ووضع المجلس آلية أكثر تطوراَ لتفعيل السوق العربية المشتركة لتعويض الدول والقطاعات المتضررة عن طريق تعظيم دور صندوق النقد العربي وزيادة حجم التجارة البينية العربية باستغلال الميزة النسبية للسلع والخدمات في كل دولة, والاستفادة من الاتحادات النوعية والشركات المشتركة القائمة لإحداث التغيير المطلوب, مع توفير نظم المعلومات لها, وتسهيل نقل التكنولوجيا اللازمة لها, إضافة إلى تنسيق المواقف في المؤتمرات والمحافل الدولية, والإصرار على أن يتم التعامل مع بعض القضايا النوعية التي تثار بمناسبة تنفيذ اتفاقيات منظمة التجارة العالمية, مثل استخدام المعايير البيئية لأغراض حمائية من خلال المنظمات الدولية المعنية وليس من خلال منظمة التجارة العالمية.
كما أرى أن انضمام جميع الدول العربية إلى منظمة التجارة العالمية من شأنه أن يكفل خضوعها لقواعد قانونية موحدة في مجالات التجارة في السلع والخدمات وحقوق الملكية الفكرية والسلوك التجاري بما يمثل حداَ أدنى للمعاملات مع العالم الخارجي, وأن يتم تنسيق الجهود العربية لمطالبة الدول المتقدمة بفتح أسواقها أمام صادرات الدول العربية, والعمل على إزالة التعريفات العالية, ومنع إساءة استخدام هذه الدول المتقدمة لإجراءات مكافحة الإغراق والدعم وإجراءات الوقاية وتدابير الصحة وغيرها من العوائق الفنية على التجارة, والإسراع بالوصول إلى قواعد مبسطة وأكثر شفافية بالنسبة لقواعد المنشأ, وتفعيل نصوص اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (المعروفة اختصاراَ باسم التربس) لنقل التكنولوجيا المتقدمة للدول العربية وتحقيق المصالح المتبادلة لمنتجي ومستخدمي هذه التكنولوجيا والوصول إلى آليات متوازنة في نقل التكنولوجيا بين البلدان المتقدمة والنامية, وهذا يتطلب منها أيضا مزيداَ من الشفافية قبل إجراء الإصلاحات الاقتصادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي