اتخاذ القرار ودور الاستخارة
كثيرا ما يدور النقاش حول القرارات التي يتخذها كل منا، وقد لا يخلو يومك من سؤالك واستشارتك لأحدهم حول قرار ما، وعادة كلما استشرت أحدهم انتهت الاقتراحات بقولنا "واستخر ربك". لكننا درسنا في كتب الإدارة الكثير حول عملية اتخاذ القرار ليس من بينها -مع الأسف- "استخر ربك"، متى وكيف؟ لعل هذا يأخذني اليوم لشرح مبسط لعملية اتخاذ القرار كما تعلمناها وكما مارستها لسنوات، وكيف ومتى نستخير، ضمن هذه العملية المهمة. من المهم أولا أن نعرف أن عملية اتخاذ القرار لا مفر منها، أي أننا سنقوم بها شئنا أم أبينا، صغارا كنا أو كبارا، أي أنها سلوك فطري، لا يمكن تجاهله أو تجاوزه بأي حال، حتى عندما نقرر أن نذهب صباحا إلى أعمالنا، فإننا نقوم بعملية سريعة فيها جميع مراحل اتخاذ القرار، التي يجب أن تبدأ بفهم الواقع وتحليل المشكلة أو القضية "مثل الوصول الأسرع إلى مقر العمل في موعده المناسب" وتحليل وتقويم الحلول أو البدائل المتاحة لذلك "السيارة الشخصية أو التاكسي، الطريق السريع أو الطريق الآخر"، واختيار الأنسب "استخدام السيارة الشخصية وتجنب الطريق السريع لازدحامه". هذه هي الخطوات المشهورة لعلمية اتخاذ القرار، لكنها ليست القرار نفسه، القرار يأتي بعدها وفي لحظة واحدة وبعدها التنفيذ.
قبل أن أوضح وجهة نظري بشأن موضوع الاستخارة، آمل أن يفهم الجميع أهم موضوع على الإطلاق في قضية اتخاذ أي قرار هو فهم المشكلة أو القضية نفسها التي نريد أن نتخذ فيها قرارا. لهذا يجب أن نمضي أكثر من نصف الوقت المتاح من أجل فهمها ودراستها والتعمق في ذلك بحسب أهمية وخطورة الموضوع. لا تستعجل الفهم، لا تقل الموضوع واضح، من تجاربي لسنوات طويلة وفي مؤسسات عدة رأيت فيها كيف يتم الاستعجال في تحليل المشكلة أو قضية القرار، وكيف انتهى الجميع إلى قرارات تعالج قضايا أخرى فخلقت مشكلات جديدة وبقيت المشكلة الأساسية بلا حل، ودخلت المؤسسة في متاهة من المشكلات لم تعرف أين كانت وأين أصبحت؟ أكرر مطالبتي لكل صاحب قرار، رجاء ابذل نصف الوقت أو أكثره في فهم ودراسة الموضوع، لا تستعجل القرار، لا تستعجل الحلول، لقد درست وحللت الكثير من القضايا، دائما نفشل في تجاوز الخطوة الأولى بشكل صحيح. وهذه الظاهرة كثيرا ما نراها في مجتمعنا، نعالج مشكلات الأبناء برعونة هائلة، لم نجلس ونفهم المشكلة، نريد حلها ونحن وقوف على الباب، قرارات منزلية هزيلة تقود الأسرة كلها إلى مزيد من المشكلات، حتى أصبحنا نسمع عن الابن الذي قتل أباه والأخ الذي قتل أخاه. وهنا رجاء مني صادق، ابذلوا مزيدا من الجهد لفهم الموضوعات، لفهم المشكلات، تأكد ألف مرة أنك تحاول حل المشكلة الصحيحة وليس ما يفرضه عقلك الباطن، أو يؤثر فيه صديق أو أخ، أو زميل أو مدير أو حتى ابن أو زوجة. وهذا يحتاج إلى تدريب، خاصة لمن يريد أن يكون مديرا تنفيذيا أو مسؤولا، يجب عليه أن يأخذ دورات تدريبية في موضوع فهم المشكلات وتحليلها، وأقول يجب، لا تتردد في ذلك، لا تقل لي تجربة وأنا صاحب خبرة، لا تقل أنا فلان وابن فلان، إذا أخذت مثل هذه الدورات ستكتشف أنك ولسنوات كنت تتعامل مع مشكلات وهمية، تاركا المشكلة الأساس تتعمق. وهذا ما وقع فيه الكثير من كبار التنفيذيين لدينا وحول العالم.
بعد أن تتعرف على قضيتك وتتعمق في فهمها وتتدارسها مع الآخرين وتتأكد أنك تقبض عليها فعلا، ناقش البدائل، تأكد أنك حصرت كل البدائل، تأكد أنك مستقل في هذا فلم يفرض عليك أحد بديلا معينا أو يحصرك في مدى معين، يجب أن تطلق لخيالك التفكير، هنا الإبداع، هنا يختلف مدير عن مدير، هناك المواهب تظهر، في إبداع الحلول وعدم الرضوخ لمفهوم الحل الوحيد والأمثل. قوّم كل البدائل "ومرة أخرى بحسب خطورة الموضوع والوقت المتاح لك" حتى تلك البدائل التي تبدو هزلية وغير جادة أو تبدو ضربا من الجنون. وبعد أن يستقر رأيك على قرار معين، وبعد أن تستبعد كل الحلول الأخرى، اتجه إلى الاستشارة، استشر خبيرا في الحل المقترح، ولا تكثر من عدد المستشارين فتضيع في متاهة نقاشهم، اسأل شخصا له علاقة واستقلال وخبرة، لا تسأل شخصا ليس له خبرة حتى لو كان أباك أو أخاك أو مديرك المباشر، ولا تسأل شخصا غير مستقل عنك أو يتأثر بنتائج قرارك ذاك. هنا قد تضطر للعودة مرة أخرى إلى موضوع تقويم البدائل فلا تتردد إذا لزم الأمر، مرة أخرى ودائما خذ وقتك بحسب تأثير القرار وخطورته.
إذا استقر رأيك على قرار معين، "فاستخر ربك" كما علمنا نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم- والاستخارة كما شرحها لنا الرسول تبدأ بركعتين لله، ثم الدعاء المشهور بعدها، وتذكر قوله تعالى: "فإذا عزمت فتوكل على الله". وهنا يجب فهم ماذا تعني الاستخارة والتوكل على الله، أن تعني أن الله هو المدبر للأمر كله وهو الذي بيده الخير وحده وهو يعلم الغيب كله ولا يعلمه يقينا إلا الله، أي أنها عبادة وإيمان بذاتها فلا تفوتها أبدا، كما أنك تفوض أمرك لله كي يقودك إلى الخير. "فإذا اتخذت قرارك وعزمت" واستخرت الله "فانطلق" "ونفذ" ما يجب تنفيذه فورا بلا تردد، لا تنتظر رؤية تأتيك في منام "كما يعتقد البعض" ولا تنتظر أن ينشرح صدرك للموضوع، ذلك أنك مهما استخرت ستظل قلقا، لأنك إنسان تقدم على الغيب، لكن يجب أن تعمل وأن تكون راضيا تماما بالنتائج، فإذا كان الأمر خيرا لك فسيتمه الله كما استخرته، وإذا كان شرا فسيصرفه عنك وستظهر العقبات التي توقف التنفيذ "الخارجة عن يدك وتصرفك" فلا تغضب حينها ولا تحزن فقد اختار الله الصالح لهذا الأمر. كن مع الله في وقت السعة والرخاء يكن معك في وقت القرار، والله أعلم.