ثمن الخروج من الدائرة
ألم يلفت نظرك في البرامج الحوارية التي تعتمد على حرية الرأي والاستقلالية ترك مسافات كبيرة بين الضيوف وبعضهم وبين المضيف عكس البرامج التي تعتمد على الرأي الأوحد وفرضه على الآخر وعلى المشاهد حيث تقل المسافات جداً .. فما السبب؟
كما قد تستغرب من شعورك العدائي عندما تُجلس أحد زملائك في غرفة الاستقبال وفجأة تجده وسط منزلك أو دخل معك إلى غرفة نومك، وتتساءل عن سبب هذا الكم من المشاعر العدائية!
والحقيقة أن هذا الشخص أو الأشخاص اقتربوا أو اخترقوا إحدى الدوائر الثلاث التي تحيط بك وهي دوائر حدّدتها دراسة قام بها بيتر مارش أستاذ علم النفس في جامعة كامبردج.
وهذه الدوائر الثلاث مركزها أنت وتبعد الأولى عنك مسافة نصف متر أي (نص ذراعك) ويحتلها الأحباب وأقرب الأقرباء، لذا تسمّى "المنطقة الحميمة " أو "منطقة المشاعر الفياضة"، فعندما تحتضن شخصاً ما تندمج فيها معه وتصبحان مركزاً لدائرة واحدة، وعندما تكره بشدة تحاول اقتحام دائرة الخصم لإلغاء وجوده وسيطرته، مثلما يحدث في المشاجرات والقتال المتلاحم. والثانية تبعد عنك مسافة متر وربع، وهي خاصة بالجيران والزملاء والأصدقاء ومَن نتعامل معهم بشيء من الرسمية، وهي منطقة المصافحة والحديث عن بُعد ونلاحظها في تعامل أصحاب المراكز الاجتماعية والوظيفية المتفاوتة، مثل المسافة التي يحتفظ بها الجندي بينه وبين رئيسه. أما الدائرة الثالثة فهي الأوسع وتبعد عن جسمك مسافة أربعة أمتار وتسمّى "المنطقة الاجتماعية "، ويحتلها مَن نقابلهم في حفل أو اجتماع مصغر، وخارجها تقع "المنطقة العامة " للعابرين في حياتك ومَن تقابلهم في الشارع أو السوق دون أن يكون بينك وبينهم أي تواصل.
ومن الملاحظ أننا نتعامل مع منازلنا مثل أجسامنا، فمدخل البيت مثل المنطقة العامة وغرفة الاستقبال المنطقة الاجتماعية، أما الصالون وغرفة الطعام لمنطقة الصداقة، وغرفة النوم تمثل المنطقة الحميمة فلا يسمح بدخولها إلا لأقرب الأقرباء.
تساعدنا هذه الدوائر على معرفة الآخر وكيفية التعامل معه والدخول إلى دوائره للسيطرة عليه والعكس يجعلهم يؤثرون في قراراتك وتقل فرصك للفوز، لذلك كان احتساب الهدف بهدفين عندما نلعب في ملعب الخصم!
وإذا رأيت أباً يتحاشى الاقتراب من ابنه ويضعه في الدائرة الثانية يشعرك ذلك بجفاف العلاقة وقسوة الأب، وبها نقيس مدى انتماء الشخص للمكان ونجاحه فيه فقد وجدت دراسة أجريت على طلبة الجامعات أن الطلاب الراسبين لم يضفوا على غرفهم في السكن الجامعي طابعهم الشخصي من لوحات وأدوات شخصية فكانوا كالضيف الراحل!