إلى منظماتنا.. احذروا هؤلاء

في سلسلة مقالات سابقة بينت الثغرة التنظيمية والخلل الاستراتيجي الذي يحدثه افتقار المنظمات إلى قيادات مؤهلة، وبينت التجارب الناجحة لتعيين قيادات من الداخل. ففي المقال الأول عرضت الجزء النظري والأهمية القصوى والأسباب الحقيقية وراء نجاح وتألق الشركات التي تتبنى إعداد وتعيين قيادات من الداخل وذكرت أبرز النماذج الناجحة في اختيار القيادات وهي طريقة جنرال إلكتريك على يد ريجبنالد جونز الذي اختار القائد الأسطوري جاك ولش لتولي منصب المدير التنفيذي لـ "جنرال إلكتريك" حتى أصبح اختيار القيادات من الداخل في "جنرال إلكتريك" ورث إداري وعرف تنظيمي تتميز به حتى يومنا هذا.
وفي المقال الثاني عرضت أنموذجا آخر لشركة أخرى كان سبب بقائها متألقة لما يزيد على مائة عام هو تعيين قيادات من الداخل وهي شركة بروكتر آند جامبل التي تضم نحو 300 علامة تجارية مختلفة ولا تهتم كثيرا بالمنافسين بل لا تراعي لذلك اهتماما فلديها ثقة مفرطة بذاتها وقدراتها تصل لدرجة الغطرسة، لذا نراها تنافس نفسها بنفسها لأنها لا ترى في الساحة ندا لها، وقد وصلت إلى هذا نتيجة وقوعها على السر العظيم لبناء منظمات ناجعة وهو تعيين قياداتها من داخل بيئتها التنظيمية ترسخت في أذهانهم رسالتها وعرفوا قيمها واتضحت أمامهم أعرافها.
ولكي نرى الجزء الآخر من الصورة سنوضح في هذا المقال انهيار بعض الشركات نتيجة جهلها بأهمية تعيين قيادات من الداخل وقيامها باستضافة آخرين من خارج الشركة على حساب أهل البيت وتسليم تحقق أهدافها إلى قيادات من الخارج، حيث أدى ذلك إلى اضطرابات في القمة وثغرات إدارية في كل مستوى تنظيمي. من أبرز الشركات التي ضلت الطريق وتأثرت كثيرا بتعيين قيادات من الخارج شركتا "وستنجهاوس" و"كولجيت". ويعد السبب الجوهري للإخفاقات التي مرت بها "وستنجهاوس" خلال مسيرتها هو عدم وضوح معايير اختيار القيادات واعتمادها في كثير من الأحيان على مرشحين من الخارج حسبما ذكر ذلك كولنز وبوراس في كتابها الشهير البناء من أجل البقاء.
تبين من مسيرة "وستنجهاوس" أن معدل دوران العمل القيادي يعد الأعلى من نوعه، فعدد مديري العموم التنفيذيين الذين تولوا المسؤولية في "وستنجهاوس" ضعف عدد المديرين في "جنرال إلكتريك"، حيث بلغ متوسط عمل القيادي في "وستنجهاوس" بثماني سنوات، بينما في جنرال إلكتريك بلغ 14 عاما أي ما يقارب الضعف ويعود السبب الجوهري لهذا الإخفاق تعيين قيادات غير مؤهلة من الداخل أو قيادات ذات مؤهلات عالية من خارج الشركة بدلا من تبني برامج إعداد واختيار القادة من الداخل. ومن مبالغة "وستنجهاوس" وهوسها بالقادمين من خارجها أنها اضطرت إلى طرد مؤسسها جورج وستنجهاوس من الشركة عام 1985 وتعيين اثنين آخرين من الخارج بدلا عنه، وتم تعيين مدير عام تنفيذي على قمة هرم "وستنجهاوس" عام 1946 كما فعلت الشيء نفسه عام 1993 عندما عينت مديرا تنفيذيا كان يعمل في شركة بيبسي بعد أن تكبدت "وستنجهاوس" خسائر بلغت مليار دولار ما بين عامي 1991 و1992.
وهذا التخبط الذي عاشته "وستنجهاوس" كان بسبب إضرابات في القمة نتيجة تعيين قياديين من خارجها لم يتعاون معهم من هم بداخلها، حيث تركوهم يواجهون الظروف الصعبة بأنفسهم ويستمتعون "من هم بالداخل" وهم يرونهم يحققون الفشل تلو الفشل فإخفاق من بالخارج يعد نجاحا لمن هم بالداخل خصوصا أن هؤلاء القادمين من خارج المنظمة يجهلون الكثير من القيم والأعراف التنظيمية وأصبح ينظر إليهم على أنهم أخذوا ما يستحقه غيرهم ويظن "أهل البيت" أنهم أتوا للسيطرة على الشركة وتغيير توجهها والكفر برسالتها.
وها هي "كولجيت" التى ظلت حتى بدايات القرن الـ 20 شركة متألقة مستقرة في نموها لمدة قرن ولها عقيدة صلبة لم ينخرها الشك بسبب أن الأجيال الأربعة الأولى من الإدارة العليا كانوا من داخل الشركة جميعهم أعضاء عائلة "كولجيت". ولكنها تدهورت بحلول الأربعينيات من القرن الماضي وتقلص حجمها وقلت ربحيتها وتخلت بالفعل عن رسالتها الأبدية وأصبحت بلا هوية ويرجع السبب الحقيقي في ذلك إلى ضعف التخطيط للخلافة وما نتج عنه من توقف في تغذية الشركة من القياديين الأفذاذ من الداخل، حيث أخفقت بالفعل في تطوير الإدارة والتخطيط للخلافة، وقد واجهت بالفعل نقصا في الخلفاء المؤهلين مما حدا بها إلى الاندماج مع "بالموليف بيت". وقد تم تبيان هذا الإخفاق لـ "كولجيت" في مقال نشر في مجلة "فورتشن" عام 1936 حسبما ذكرها كولنز وبوراس، حيث ذكر المقال أن الإخوة كولجيت كانوا يتقدمون في العمر فقد كان "جلبرت" الرئيس عمره 70 عاما وسيدني 66 عاما، أما روسل فقد كان يبلغ من العمر 55 عاما، إلا أنه لم يكن له دور كبير في الإدارة. أما الابن سيدني كولجيت فقد تخرج في جامعة ييل وكان يعتبر صغيرا جدا مقارنة ببقية أعضاء عائلة "كولجيت". ونتيجة لنظام الخلافة السيئ الذي اتبعته "كولجيت"، لم يكن لديها مخزون من القياديين الأكفاء يتولون المحافظة على عقيدة الشركة، لذا دخل القادمون من خارج الشركة فأتى تشارلز بيرس من الخارج وأقنع الإخوة بالاندماج مع "بالموليف بيت".
هاتان قصتان لشركتين عملاقتين انحرفتا عن الطريق وضلتا السبيل نتيجة سوء التخطيط للخلافة وعدم مقدرتهما على إعداد قياديين من الداخل، وهنا يتحتم على منظماتنا ألا تكابر وأن تستفيد من التجارب العملاقة وتعتني بتطوير وتأهيل وانتقاء المواهب الإدارية التي نمت بداخلها وألا تستقدم هؤلاء مهما كانت الحاجة إليهم لأنهم سيظلون يشعرون بالغربة ولن يتعاون معهم أهل البيت ويعتبرون دخلاء على البيئة التنظيمية.
وفي مقال قادم ـــ بإذن الله ــــ سنعرض آلية وطريقة اختيار القيادات في المنظمات التي ترغب في التألق ونقارن ذلك بما يحدث في منظماتنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي