أفيون التقاعد وأفيون الاعتماد
عندما أطلق أحد الأصدقاء مصطلح ''أفيون التقاعد'' - كان قد مر نحو عام على تقاعده من عمله في التعليم العام - قلت له وما علاقة التقاعد بالأفيون والمخدر والتخدير؟ بادرني قائلاً إن بعض المتقاعدين عن العمل يطلقون هذا المصطلح تعبيراً عما يعانيه بعضهم من فراغ وعدم تنظيم وانتظام في مجريات حياتهم العامة. إن ذهب في سهرة مع زملاء أو أصدقاء لن يهتم بالوقت وساعة العودة إلى منزله، قد يصبح ليله نهارا ونهاره ليلا، يسافر متى شاء ويعود متى سئم الغربة أو السفر أو نفد ماله وزاده، يخرج في رحلة برية دون أن يسأل متى سيعود وكم من الليالي سيقضيها في البر، لن يهتم متى يتناول وجبة الإفطار أو الغداء أو العشاء والتي قد تتداخل فيما بينها ويحل موعد بعضها مكان الآخر. قال: أليس ذلك نوعا من التخدير، على الأقل تخديرا معنويا وتخديرا عمليا؟
عندها تبادر إلى ذهني تخدير أو أفيون من نوع آخر أشد خطراً مما سماه صديقي ''أفيون التقاعد''، وهو ما يمكن أن نسقط مصطلحه عليه وهو ''أفيون الاعتماد على الأيدي العاملة الوافدة''.
عندما نتأمل بدقة الحال العملية والمهنية في بلادنا وبقية دول الخليج العربي نجد أن نسبة عالية من المواطنين، يميلون إلى الاعتماد على غيرهم في كثير من شؤون حياتهم وفي أعمال يفترض ألا يؤديها غيرهم، حتى أصبح ذلك هو المعتاد وغيره شاذا. يمتد هذا الاعتماد من الفرد إلى الأسرة إلى أغلبية قطاعات المجتمع وفئاته.
توكل الأم أغلبية أعمال البيت إلى عاملتها المنزلية، مثلما يعتمد الأب في جزء كبير من مهماته الخاصة أو التي تخص أسرته على السائق والعامل الخاص. لم نعد نستغرب عندما تطلب الأم من بناتها أو أبنائها تأدية عمل أو تكليفهم بمهمة ما إن يكون الرد لست ''شغالة'' أو لست ''سائقاً ''، مهما كان ذلك العمل حتى في الأشياء الخاصة جداً والبسيطة جداً، ولن يختلف الرد عندما يطلب الأب بعض الأعمال من أولاده.
لم نعد نستغرب أو ننكر على التاجر السعودي ورجل الأعمال في مؤسسات القطاع الخاص، في متجره أو مؤسسته وهو ينيط بالعمالة الوافدة جل الأعمال والمهام الرئيسة، وقيام بعضهم ببيع اسمه وسجله التجاري للوافد مقابل مبلغ مالي شهري أو سنوي.
وفي مؤسسات القطاع الحكومي نشاهد عشرات النماذج من هذا الاعتماد، حتى إن البعض يعمل جاهداً من أجل توظيف أو بقاء موظف مستقدم من أجل أن يتولى بعض، أو كل المهام نيابة عنه، ويمتد هذا الاعتماد – بكل أسف - إلى جوانب مهمة وحيوية منها الدروس الخصوصية، والأبحاث العلمية، ولا يخفى أن هناك من بين الطلاب من يوكل مهامه البحثية إلى الغير ومنهم طلاب دراسات عليا. وامتد هذا الاعتماد إلى اللغة والثقافة، وأصبحنا نتعلم لغتهم نكتب ونرطن بها، حتى كادت تختفي لغتنا من برامج كثير من المؤسسات والشركات الوطنية!
ومن فرط اعتمادنا واتكالنا على العمالة الوافدة، تلك الحكاية التي حدثني بها صديق آخر عن حجم المعاناة التي واجهها خلال الصيف الفائت بسبب سفر سائق أسرته الخاص، وأن حجم ومتطلبات الأسرة لا يطاق، وأنه لم يعد يتمكن من ذلك، لأنهم يطلبون منه مثل ما كانوا يطلبونه من السائق الذي كان متفرغاً لهم، حتى صار يردد بين فينة وأخرى، سأخصص أضحية لهذا السائق عند عودته، وهو يعني بذلك أن سائقه وما يؤديه له من أعمال يستحق مثل هذه المكافأة.
وبسبب اعتمادنا واتكالنا المفرط على العمالة الوافدة، حاول البعض البحث عن مخارج شرعية لتبني هذه العمالة مثل السائق أو عامل المنزل الذي يختلط بالمحارم. عندما تصل الحال بنا إلى هذه الدرجة ومحاولة تبني العمالة المنزلية بالإرضاع، إنما هو نوع من التخدير، وكأن أبناءنا الفعليين لم يعد منهم فائدة أو جدوى تذكر، وأن الكل الفرد والأسرة والمجتمع أصبح مخدراً بأفيون هذا الاعتماد على العمالة. والمشكلة أن عدوى هذا الاعتماد والاتكال لم تعد قاصرة على أصحاب الدخول العالية أو حتى المتوسطة، بل هو ممتد حتى بين أصحاب الدخول المنخفضة.
إن الاعتماد على العمالة الوافدة له وجهان، كلاهما أصاب مجتمعنا بالتخدير، الوجه الأول يخص الأفراد والأسر وهو ما يتصل بشؤونهم المنزلية والخاصة، والوجه الثاني وهو الأهم يخص مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص، وإن كان بصورة أشد قسوة من قبل القطاع الخاص الذي من فرط اعتماده على العمالة الوافدة وتكرار عدم الثقة بالمواطن ومخرجات التعليم أن صار كل ما يقوله هو الحقيقة حتى خدر نفسه وخدر معه المجتمع والمسؤولين بما يراه ويعتقده، وبالتالي أصبح الكل يردد مثل هذه المقولة دون وعي أحياناً.
وبعيداً عن تعداد العمالة الوافدة وكثرتها وقلتها، حتى معدلات البطالة بين المواطنين فالمشكلة الكبرى تكمن في تفاقم درجة الاتكال في مجتمعنا السعودي والخليجي وأنه غدا اتكالياً بصورة مفرطة ومقلقلة، ولهذا الكثير من المخاطر ليس أقلها فقدان مهارات العمل، ومهارات الإنتاج، وفقدان الثقة بالنفس، والاعتماد على الذات، وكلها غدت حالات مرضية مزمنة تحتاج إلى علاج، وقد تنتج عنها أعراض مرضية وانسحابية يتطلب علاجها سنوات طويلة. وبالتأكيد فإن كثيراً من الأسر، ورجال الأعمال، يتوارد في أذهانهم تساؤل متبوع بالقلق والخوف من ماذا لو ذهبت هذه العمالة يوما ما؟ كيف سيكون عليه حالنا، وما الأعراض المرضية والاقتصادية التي يمكن أن تصيب مجتمعنا؟!
وفي كل الأحوال يجب ألا نلقي أي لوم على العمالة الوافدة فلهم دورهم ومساهمتهم الفاعلة والملموسة في التنمية التي شهدتها وتشهدها بلادنا، ونحن من طلب استقدامهم، وهم لم يتركوا أهلهم وبلدانهم إلا من أجل كسب الرزق، وهو حق مشروع لهم طالما عملوا وكسبوا بالطرق المشروعة، وجزء منهم ولد وعاش في بلادنا وأحبها وأحبته، لكن اللوم كل اللوم يقع علينا نحن، حتى إن بعض الإخوة الوافدين أصبح يتندر على المواطنين، بأنهم شعب خامل كسول لا يعرف ''كوعه من كرسوعه''، ولا يربط مسماراً أو يفكه.
وأمام تدني ثقافة العمل والإنتاج لدى كثير من الشباب السعودي، وتراجع مهارات العمل لديهم، والركون إلى الرفاهية المزيفة أحياناً، وما يقابلها من أنانية رجال الأعمال وشركات القطاع الخاص، وسيادة ثقافة الاعتماد والاتكال على الغير، وعدم تطبيق كثير من القرارات والأنظمة الحكومية، ستتفاقم المشكلة يوماً بعد آخر. ولعل عملية تصحيح أوضاع المقيمين في المملكة والتي تتم هذه الأيام، فرصة سانحة لتصحيح وضع آخر وهو إعادة الثقة بالشباب السعودي، ونشر ثقافة العمل والإنتاج، والبعد عن الاعتماد والاتكال على الغير. إن على جميع فئات المجمتع ومؤسساته العمل بجد لتعديل الوضع ومعالجة المشكلة وأبرزها إعادة الثقة للشباب السعودي، وبث روح وثقافة العمل والإنتاج، وهذا يتطلب تضافر وتنسيق جهود كل الجهات ذات العلاقة، وكما يقول المثل ''لن يحك جلدك مثل ظفرك''. وأخيراً علينا أن نميز ونفرق بين الرفاهية والعمل، فأكثر الشعوب رفاهية هي تلك التي تعتمد على نفسها وأبنائها لا على غيرها.