تطوير التربية والتعليم .. المهمة الصعبة الممكنة
أكبر أزمة تواجهها الأسرة بعد أزمة تخرج أبنائها دون حصولهم على تعيين، هي أزمة اختيار المدرسة الثانوية التي يمكن أن تضمن لأبنائهم وبناتهم مستقبلاً أفضل. هناك إشكالية الموازنة بين العلم المكتسب والدرجات النهائية. لعل من نافلة القول أن المدارس الحكومية أصبحت خارج الاختيار تدريجياً، وانحصر التنافس اليوم بين المدارس الخاصة.
هذا من أهم التحديات التي تواجه الأمير خالد الفيصل وزير التربية والتعليم - لكنه قد يكون فرصة تاريخية لتغيير المسار. تحدي العزوف عن التعليم الحكومي ليس معزولاً عن صعوبات تعانيها الوزارة في مجالات مختلفة. المدرسة لم تعد ذلك المكون المؤثر في سلوكيات الأبناء والداعم لتواصل المجتمع. يمكن إعادة دور المدرسة من خلال دعم الأنشطة غير المنهجية في المدارس. يجب أن تكون المدرسة مفتوحة الأبواب والقلب لكل فئات المجتمع، ومركزاً لنشاطات الحي الرياضية والاجتماعية والثقافية. لعل ما ذكرته في مقال سابق عن طلب إحدى لجان تنمية الأحياء من مدرسة حكومية تخصيص يوم للقراءة، وتعطل ذلك بسبب الإجراءات الإدارية، دليل على أن هناك إمكانات يجب الاستفادة منها والنظر إليها بطريقة مختلفة.
تمكين المدارس من التعرف على مهارات الطلبة وتنميتها أمر مهم يستلزم مجهوداً خارج الأطر التي تعيشها مدارسنا اليوم. تذكر إحصائية أن 70 في المائة من الطلبة في ألمانيا يتخصصون في المجالات المهنية التي برعوا فيها في الدراسة الثانوية. يلغي هذا الكثير من اللبس لدى الأسر حيال المجال الذي يلائم مهارات وإمكانات أبنائهم في المستقبل، ويسهم في توجيه العملية التربوية للأبناء بطريقة علمية بعيداً عن الاجتهادات التي تضطر لها الأسرة لعدم وجود البديل.
تأهيل المعلمين من القضايا الأهم اليوم. قامت الوزارة خلال السنوات الماضية بتوجيه معلمين للتعليم الخاص - الذي يعتبر واحداً من أصعب التخصصات - لسبب وظيفي بحت. فضلت الوزارة حامل الدبلوم الموظف على حامل البكالوريوس القادم من الجامعة، لمجرد كون حامل الدبلوم ''المسلوق'' لا يحتاج إلى إحداث وظيفة، وهذه من عجائب الوزارة التي يجب أن تنتهي.
يتوجه طلبة الجامعة لتخصص تربوي ''عادة'' لأن الوظيفة مضمونة بعد التخرج. هذا اختيار لا يمكن أن نعاتب الطالب عليه، لكن المطلوب هو معلم قادر على تحقيق الرسالة التربوية في دولة تطمح لأن تكون في مقدمة دول العالم. يتطلب أمر مثل هذا أن تعاد صياغة عملية القبول في التخصصات التربوية بحيث يدخل من ضمن الاختيار اختبارات الشخصية والمهارات السلوكية وغيرها من وسائل التعرف على قدرة المتقدم على تحقيق أهداف العملية التربوية. يستلزم هذا تعاوناً بين الوزارة ووزارة التعليم العالي، حتى لا تقع الوزارة ضحية عدم ملاءمة المخرجات لمتطلبات المرحلة، كما حدث مع وزارة الصحة.
يشمل تأهيل المعلم إعادة النظر في مفهوم مساعد المعلم. إن قضاء الخريج فترة كافية كمساعد معلم في مدارس مختلفة، يساهم في تكوين شخصيته التربوية داخل الفصل. يمكن أن ينفذ الخريج هذه الفترة مع معلمين مثاليين تختارهم إدارات تعليم المناطق كقدوات يمكن أن يكتسب المعلم الجديد من خبراتهم وطريقة عملهم بدل إدخال المعلم الفصل دون تأهيل سوى الجزء العملي من الدراسة الجامعية.
أزعم أن الكثير من المشكلات التي نسمع عنها في المدارس، خصوصاً إساءة المعاملة من قبل المعلمين للطلبة أو الاعتداءات المتكررة من الطلبة على المعلمين، يمكن التحكم فيها كلما كان المعلم أكثر علماً وحكمةً وقدرة على التفاعل الإيجابي مع مختلف المؤثرات داخل الفصل وخارجه.
لقد تعودنا أن نرى من الأمير مبادرات وإجراءات تخرج عن المألوف، هذا هو ما تحتاج إليه كل وزارات الدولة. التفكير خارج الصندوق، وتجاوز حل المشكلات بالطرق التقليدية كاللجان والمؤتمرات والمداولات التي لا طائل وراءها، هو شعار المرحلة. المجتمع يحتاج إلى قرارات ''صادمة''، تبنى على التعرف على حقيقة المشكلات والبدائل المتاحة والتعامل معها بشكل علمي.
طبقت الإمارات واحدة من أذكى الأفكار عندما نفذت عملية عصف ذهني لجميع قطاعات المجتمع، بل العالم. حصلت اللجنة الوزارية المكلفة بدراسة الأفكار المقدمة على أكثر من 80 ألف فكرة لتطوير الرعاية الصحية.
يمكن أن تتبنى الوزارة في العهد الجديد مفهوم التفويض '' outsourcing''، وذلك من خلال دعم وتشجيع إنشاء المدارس الخاصة من قبل جهات تعنى بتطوير المجتمع كالجمعيات الخيرية ولجان ومراكز تنمية الأحياء، بل حتى إنشاء شركات كبرى تقوم بمثل هذا العمل. يمكن من خلال هذه المنشآت أن تحقق الوزارة مجموعة من العناصر تشمل: تطوير جودة التعليم، وتوظيف المتخصصين من خريجي التخصصات التربوية دون تغيير، بل قد تحسن مرتباتهم، وضمان المرونة المالية والإدارية للمدرسة في تعاملها مع الطلبة والمجتمع بشكل عام، وتسهيل الرقابة على جودة المخرجات.
أتمنى للأمير التوفيق في هذه المهمة الصعبة غير المستحيلة على فكره وقدرته وخبرته.