إنشاء اتحاد خليجي .. ضرورة استراتيجية

لنعترف بأن دول الخليج ضعيفة خاصة أمام التحديات والتحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة. ولذا يبرز التساؤل في كيفية حماية هذه الدول لنفسها، والوقوف - أو بعبارة أوضح الصمود - أمام ما يجري في المنطقة من أحداث وتغيرات، والحفاظ على استقلاليتها وأمنها والنأي بشعوبها من ويلات ما يحاك لها من مؤامرة وتدابير تُحاك بليل. ما حدث في أفغانستان والعراق وقبله الكويت دروس واقعية في أن كل شيء وارد وأن الأمور مفتوحة على كل الاتجاهات، ولم يعد هناك ثبوت في العلاقات الدولية؛ بل هناك توازنات جديدة، ونحن نعيش مخاض تغيرات كبيرة. حتى النفط الذي هو قوة تفاوض دول الخليج مع الغرب لم يعد كذلك، وأصبح الآخر يرغب في الحصول عليه بالقوة من خلال خلق أوضاع أمنية وسياسية في المنطقة تُضعف موقف الدول الخليجية، وتجعلها تذعن لسياساته وأطماعه ليس الاقتصادية فحسب؛ بل بما هو أبعد من ذلك والمتمثل في مراميه ومخططاته الاستراتيجية في خلق شرق أوسط جديد من خلال تغيير خريطة الجغرافيا السياسية والتحرك بطريقة جديدة تخدم مصالحه وعلاقاته مع حلفائه في المنطقة كإسرائيل وإيران. وهذه ليست من وحي فرضية أو نظرية المؤامرة، وإنما واقع مشاهد وأحداث متتابعة لم تغفل عنها نشرات الأخبار، وبالتأكيد هي من باب أولى في ذهن صانع القرار. والمتمعن بدقة فيما يحدث يؤمن أن التغيرات حتمية، وأن وقوعها مسألة وقت ليس إلا. لذا كان لزاماً على دول الخليج إدراك هذه التغيرات، والعمل على التكيف مع الأوضاع المقبلة والإعداد لها، ليس كردة فعل، لكن بمبادرة ذكية ونظرة بعيدة المدى وقرار حاسم وحازم يمنحها التأثير على ما يجري ومنع أو التقليل من التحولات التي هي في غير صالحها. لقد مضى ردح من الزمان والدول الخليجية تعيش في بحبوحة من العيش والأمن والاستقرار بفضل من الله، ثم بفضل حقائق توازن القوى العالمية، إلا أن ذلك تبدل وولى إلى غير رجعة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفتته وبروز الولايات المتحدة كقطب أوحد يمتلك زمام الأمور، هذا إضافة إلى سيطرة فكر اليمين المتطرف على السياسة الخارجية الأمريكية حتى في ظل وجود إدارة ديمقراطية يمثلها رئيس ينتمي للأقليات العرقية. ومن ثم لم تصبح الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة فقط. ولكن الأدهى والأمر أنها تساق بفكر متطرف ظاهره الدعوة لتطبيق قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعولمة، وباطنه التدخل في شؤون الدول وتنفيذ أجندتها التوسعية. هل نحن معنيون بما يفكر به الآخرون وما يخططون له؟ نعم .. إلى حد كبير!، فدرجة علاقتنا بأفعال وقرارات الآخرين بقدر قوتهم نسبة إلى ضعفنا. إلا أنه تبقى لنا خياراتنا والمحاولة لتكبير دائرة نفوذنا وتأثيرنا وتحصين أنفسنا سياسياً واقتصادياً وثقافياً. لا بد من النظر لما يجري حولنا واستيعابه من خلال تفكير استراتيجي، ونظرة مستقبلية شمولية وعميقة، تجيب عن تساؤلات تدور في أذهان أهل الخليج مفادها: كيف ستكون دولنا بعد عقد من الزمان أو ''أقل''؟ هل ستكون مبتلَعَة من قبل إيران كشريك الولايات المتحدة في تنفيذ مخططاتها، أم يا ترى تكون تحت وصاية الولايات المتحدة بعدما أن تجعل إيران تقوم بدور كلب حراسة شرس تخوف به دول المنطقة. الاتفاق الأخير بين إيران وأمريكا ومن قبله تقديم العراق لإيران على طبق من ذهب يجعل الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها. وهذا أمر أقل ما يقال عنه أنه مخيف وخطير جداً ويهدد أمن واستقرار دول الخليج، بل حتى ديمومتها. إنه من البلادة السياسية وسخف التفكير أن ترى الخطر قادماً وتتظاهر وكأنك لا تراه لتتوهم أن الأمور ستستمر على ما هي عليه. ومن مظاهر هذه السلبية في مواجهة التحديات والتهديدات القادمة تشاغل الدول الخليجية بأمور سطحية واجتماعات احتفالية والإغراق في مناقشة الجزئيات الشكلية. ويُخشى أن يؤدي قصر النظر في التعامل مع التغيرات المحيطة أن يؤدي ذلك إلى أن تدخل الدول الخليجية في نفق مظلم، وأن تصطدم بواقع أليم لا تملك حينها الوقت ولا العتاد لاتخاذ القرار المناسب.
ومن هنا تأتي دعوة القيادة السعودية لتكوين اتحاد خليجي في سياق تحصين دول الخليج برباط قانوني يمنحها الأمن المشترك والتصدي لأية محاولة للتسلل إلى المنظومة الخليجية عن طريق التفرد بكل دولة على حدة. إن من شأن الاتحاد الخليجي منح دوله تحقيق مفهوم الدفاع المشترك في إطار قانوني دستوري يمنع من وصف التدخل لمساعدة الدولة المتضررة بأنه تدخل أجنبي. وهنا يبرز تساؤل في غاية الأهمية من المستفيد الأكبر من الاتحاد الخليجي؟ بطبيعة الحال هي الدول الخليجية الأصغر مساحة وسكاناً والأضعف عسكرياً، إذ تمثل السعودية العمق الجغرافي الاستراتيجي، وما قامت به السعودية إبان احتلال الكويت، وما لعبته من دور كبير وحاسم ومشرف في عودة الحق لأهله يعد مثالاً بارزاً على أهمية السعودية في المنطقة. لكن أيضاً السعودية ستستفيد من مشروع الاتحاد الخليجي أن تضمن ألا يتم اختراقها أمنياً وتهديدها من خلال تلك الدول الأضعف. إذاً هي نظرة مشتركة تنطلق من المصير المشترك، والعلاقة التبادلية التي تمثل احتياج كل طرف للآخر. وهذا يقود للحديث عن الموقف العماني الشاذ - وهو أمر غير مستغرب - الذي لم يكن مفاجئاً عطفاً على السلوك السياسي للدبلوماسية العمانية الذي يرى أن ليس له ناقة أو جمل فيما يجري. فالعمانيون يرون أنهم مختلفون عن باقي دول الخليج من حيث افتقارهم للثروة النفطية كما باقي دول الخليج، وبالتالي ليس للغرب أطماع فيها، وبالتالي اعتمدت الحيادية، وعقدت صفقات متوازنة مع جميع الأطراف بالمنطقة. هذه الحيادية جعلت عمان أقل تأثيراً من باقي دول المنطقة في المنظومة الخليجية، وبالتالي لن يؤثر انسحابها كثيراً على مشروع الاتحاد الخليجي في الوقت الراهن. لكن تبقى مسألة تتعلق بالشأن العماني الداخلي فيما بعد السلطان قابوس وكيف ستؤول الأمور عليه؟ وهل سيُحدث غياب قابوس نزاعا داخليا وتفقد استقرارها، ما يسمح بتدخل خارجي؟ هذا أمر يجب أن يؤخذ في الحسبان في منظومة الأمن الخليجي. إن الدول الخليجية شاءت أم أبت.. علمت أم جهلت هي في الخندق نفسه وجميعها يتهددها الخطر، وعليها تدارك الفرصة والإنصات لصوت الحكمة القادم من السعودية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي