الحوكمة المحلية .. لمواجهة التحديات الوطنية
ثمة حقيقة يجب إدراكها والاعتراف بها، وهي أن ما نعانيه من صعوبات على المستوى الوطني، خرجت من رحم الأحياء السكنية. فكثير من المشكلات تبدأ صغيرة على المستوى المحلي، ثم أنها في ظل غياب هيئات محلية مسؤولة عن إدارة الشأن المحلي تكبر لتتحول إلى مشكلات وطنية، أو ربما أزمات مستعصية، ما لم يتم وأدها في مهدها، كما هو الحال مع العمالة الإثيوبية غير النظامية. لقد تُركت مشكلة العمالة غير النظامية تتراكم مع مرور الزمن دون أن يتم تداركها في وقت مبكر، فاستمرت تتفاقم حيناً من الوقت، وتطل علينا بآثارها السلبية؛ مهددةً الأمن العام، والسلم الاجتماعي، والصحة العامة، ومشوهةً البيئة الحضرية. لكن يبقى السؤال مطروحاً، وهو: لماذا تُركت المشكلة لتتفاقم وتتضخم حتى انفلت زمامها، وتحولت إلى قضية وطنية؟! بل إن آثارها تجاوزت حدود الوطن لتدخلنا في متاهة العلاقات الدولية، وتتيح الفرصة لأولئك المتربصين بنا في أن يستغلوا تلك الأحداث للنيل من مكانة وسمعة السعودية، وتنفيذ أجنداتهم الشريرة. إن الجواب عن هذا التساؤل في غاية البساطة، وهو انتهاج المركزية وعدم منح سكان المدن والأحياء الفرصة للمشاركة في التعرف على مشكلاتهم والمساهمة في وضع حلول مناسبة لها. إن امتلاك المكان والشعور بالانتماء إليه، يجعل السكان أكثر حرصاً عليه، والحفاظ على أمنه، والعمل على تجنب وقوع الجريمة فيه. ولذا كانت الدعوة لتأسيس الشرطة المجتمعية لتكون سنداً أمنياً يؤسس لعلاقة وثيقة وتفاعلية بين الجهات الأمنية والسكان.
لقد كانت المركزية والبيروقراطية في المراحل الأولى من مسيرة التخطيط التنموي في السعودية مطلباً أساسياً لتحقيق التنمية والنهوض بالمجتمع وتحقيق الرفاهية الاجتماعية. كما أن الظروف السكانية والحضارية والثقافية كانت مواتية لتطبيق المركزية؛ فعدد السكان، ونسبة التحضر لم تكن بعد قد بلغت مستويات عالية، وما شجع على تبني نهج المركزية زيادة العوائد الحكومية، وعزم الدولة على بناء البنى التحتية والمشروعات الوطنية الضخمة كمتطلب للتنمية الوطنية. لقد كانت المجتمعات المحلية صغيرة ووادعة في حينها، وتتميز بقلة الموارد المالية والكفاءات البشرية والخبرات الإدارية، وكانت قضاياها بسيطة وغير معقدة، وبالتالي كان لا بد للأجهزة المركزية أن تقود جهود التنمية بكل مجالاتها، وعلى جميع المستويات لما تملكه من إمكانات مادية وبشرية ومعرفة فنية ودراية إدارية. ولتحقيق نقلة حضارية واقتصادية واجتماعية تبنت الدولة خططا خمسية مركزية، وهو ما عزز التوجه نحو المركزية واستفراد الأجهزة المركزية بعملية صنع القرار التنموي. كما أن حالة الاستقرار الداخلي والعالمي كونت مناخاً مشجعاً دفع نحو تبني المزيد من المركزية لإحداث تغيرات بنيوية، وتحقيق تنمية اجتماعية واقتصادية شاملة، إلا أن كل ذلك تبدل، وأصبحت التحديات والمتغيرات تعصف بجميع الدول مما استدعى إيجاد أنظمة إدارية حكومية أكثر مرونة واستجابة ومبادرة وإبداعا لمواجهة تلك التحديات والتعامل مع تلك المستجدات، وكانت في جوهرها ترتكز على تجسير الهوة بين المواطن وصانع القرار.
إن الدعوة إلى انتهاج اللامركزية، ليست فقط من أجل توفير سلع وخدمات بجودة عالية، وتستجيب لمتطلبات المجتمع المحلي، لكن لتعزيز المشاركة والرقابة الشعبية على العمل الحكومي. لقد أصبحت الحوكمة المحلية أمراً ضرورياً في ظل تعثر المشاريع والفساد الإداري والمالي من جهة، والاتكالية واللامبالاة من قبل السكان المحليين من جهة أخرى. إن آفة التنمية وجود مواطنين لا يتحملون مسؤولياتهم تجاه ما يحدث حولهم؛ لأن السلطات الرسمية لا تستطيع مهما أُوتيت من إمكانات أن تقوم بكل شيء! فالتنمية من وإلى المواطنين، لكن للأسف التنمية في وضعها الحالي مبتورة فهي إلى المواطن، ولكن ليست من المواطن. وهو ما يجعل المواطنين في وضع المتفرجين يُحملون الدولة مسؤولية ما يقع من سلبيات؛ لأنهم خارج دائرة المشاركة في صنع القرار. المركزية الشديدة في صنع القرار ترهق كاهل الأجهزة المركزية؛ لأنها ليست مسؤولة فقط عن الشأن الوطني، ولكن تتحمل مسؤولية إدارة الشؤون المحلية، رغم أنها بعيدة جغرافياً، ولا تملك الدراية والحماس للتعامل مع القضايا المحلية.
لقد أدركت كثير من المجتمعات حقيقة أن أهل المدن أدرى بشؤونهم فأنشأوا المجالس المحلية المنتخبة لإدارة المدن، ولم يكتفوا بتفويض الصلاحيات الإدارية والمالية كما في نموذج الإدارة المحلية، بل منحوها قوة التشريع ليكون مسماها حكومة محلية أو حكما محليا. ولم يكن الحكم المحلي كافياً لمواجهة التغيرات الكبيرة والمتسارعة؛ فالوضع يستلزم تطبيق الحوكمة المحلية، التي تستهدف مشاركة جميع مكونات المجتمع المحلي كمؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص إلى جانب القطاع العام، فلم يعد باستطاعة الأجهزة والهيئات الحكومية المحلية القيام بمهام إدارة الشأن المحلي منفردة. هكذا فقط تمكنت تلك الدول من تطوير وتنمية مجتمعاتها وتضييق نطاق الإشراف ورفع قدراتها في الضبط الاجتماعي والسيطرة على الأحداث والتهديدات المختلفة. لقد أدركت أن التفاعل الاجتماعي في المحليات أمر أساسي وضروري لتحقيق التنمية المحلية، وأن المشكلات المحلية تتطلب حلولاً محلية إبداعية في الدرجة الأولى.
العنوان الأبرز هنا، هو اليقظة المجتمعية المحلية، حيث تكون درجة الوعي والحماس والولاء لدى السكان المحليين في أعلى دراجاتها. وهذا لا يتأتى إلا من خلال مجالس محلية تتمتع بصلاحيات مالية وإدارية، وتتيح فرصة المشاركة للسكان في صناعة القرارات الجماعية التي تهمهم. لقد أثبتت تجربة المركزية أنها نهج لم يعد يتناسب مع وقع المتغيرات والتحديات المتعددة، وقد فشلت في كثيرٍ من الأحيان في التصدي لمشكلات المجتمع، وإن تم علاج مثل تلك المشكلات فقد يكون علاجاً شكلياً بتكلفة عالية وبجهدٍ كبير. لقد بات من الضروري في ظل عدم الاستقرار الذي تعيشه المنطقة، والمستجدات والضغوط الدولية التي تتزايد على السعودية، العمل على رفع مستوى مسؤولية ووعي المواطن من خلال تطبيق الحوكمة المحلية. فهناك حاجة ماسة لتطوير العمل الجماعي من خلال التمكين، والمشاركة الشعبية، وتطبيق نهج الشفافية والمحاسبة والمساءلة. هكذا تتعزز اللحمة الوطنية ويتعاون ويتكاتف المواطنون في اغتنام الفرص ومواجهة التهديدات المحدقة، لأنه عندها يكون القرار المحلي بمشاركة المواطنين ومن أجلهم، وليس برأي بيروقراطي بعيد جغرافياً واهتماما عن همومهم وتطلعاتهم.