«لا يفوتك .. خيال»
ذهبت مع أطفالي للغداء في أحد مطاعم شارع التحلية، وهو ذاك المطعم المشهور، الذي كلما قابلتني إحداهن قالت ''صراحة لا يفوتك أكلهم خيال''، والذي أيضا كلما فتحت ''إنستجرام'' وجدت دعاية له غير طبيعية من خلال الصور التي يضعها أصحابها في صفحاتهم وهم يكيلون أنواع الثناء والمديح له من حيث جمال المكان وروعته وفخامة الأطباق ولذتها، لذا عزمت على زيارة هذا المطعم وكم كانت تجربة أدركت بعدها أن كثيرا من آرائنا تتأثر بآراء الآخرين سلبا أو إيجابا وبحسب نظرتهم هم لا نظرتنا نحن، بل ربما يخجل بعضنا من إبداء رأيه خوفا من أن يوصف بأنه ''ما عنده ذوق'' أو ''ما يعرف الزين''. حين دخلت المطعم لاحظت ضيق المكان الشديد، فأنت بالكاد تتحرك بين طاولات الطعام التي كانت مفتوحة على بعضها من دون أي خصوصية للعائلات، وحين طلبنا تلك الحواجز الخشبية أو ما تسمى ''البارتشن'' أحضروها وكانت أطرافها مهترئة وأرجلها مخلوعة حتى أنها سقطت على الطاولة أثناء تناولنا الطعام أكثر من مرتين.
أما سعة الطاولة فحدث ولا حرج، فهي لا تكاد تتجاوز مترا في نصف متر، وحين طلب أبنائي غداء في حدود المعقول اضطررنا إلى أن نضع كؤوس العصير على البلاط ثم نرتشف منها ونعيدها وهكذا!
وحين جاء دفع الفاتورة صعقت من المبلغ فقد كان يقارب الأربعمائة ريال رغم أنه لم يكن ذاك الطعم المتميز الفريد كما وصفوه وتغزلوا ''بلذاذته'' ولم تكن تلك الكمية المبالغ فيها!
حين يقول لك أحدهم ''لا يفوتك .. خيال'' فاسأله هل جربته بنفسك، أم أنك تردد ما يقوله الآخرون؟
فإن قال لك جربته فاسأله ما الخيال الذي وجده في هذا الشيء تحديدا ولم يجده في غيره، ثم ابدأ في ذكر سلبيات هذا الشيء كما رأيتها أنت فعلا على أرض الواقع، وستندهش حين تراه يتنفس الصعداء ويبدأ في التعبير الصادق دون أن يخشى أن ''تتطنز'' عليه أو تنتقد ذائقته وذوقه!
الوصف المبالغ فيه للمنتجات والملابس والمطاعم والمعارض يسهم بشكل غير مباشر في جنون الأسعار لتلك الأشياء نتيجة الدعاية المجانية التي نقدمها بحسن نية حين نقول ''لا يفوتك .. خيال'' ثم ندفع الثمن من جيوبنا رغم رداءة ما يقدم ورخصه وعدم جودته وبعده عن كل وصف خيالي رسمناه في عقولنا من خلال مدح الآخرين المبالغ فيه.
لذلك كثيرا ما يصدم البعض بالواقع حين يجربون ما وصف لهم بأنه خيالي ويجدونه أقل من عادي ولا يستحق كل هذه الدعاية الهائلة التي تصاحبه، فليتنا نكف عن المبالغة في الدعاية المجانية أو على الأقل نمتدح فعلا من يستحق ذلك لتميزه وجودته لا لأن فلان المشهور امتدحه فنتراكض بلا وعي وتدبر نحوه، والمشكلة أننا مع عدم اقتناعنا وحتى بعد تجربتنا نظل نمتدحه من أجل ''البرستيج'' وحتى لا يقولون فلان ''قراوه ما عنده ذوق''!
سأذكر لكم حادثة بسيطة آمنت بعدها بأن ''الماركات'' ما هي إلا أكذوبة يضحكون بها على ذقوننا وجيوبنا في المقام الأول، فقد أخبرتني إحدى زميلاتي أن هناك ''تخفيضا هائلا .. لا يفوتك خيال'' وخصما مغريا لجميع ''الماركات''. في أحد المولات، ذهبت أنا وصغيرتي لهذا المعرض وما أن شاهدت جاكيتا شتويا من خلال ''فاترينة'' العرض إلا وطلبت مني أن أشتريه لها، وحين سألت البائع عن سعره أخبرني أنه بعد الخصم (لاحظوا بعد الخصم) 600 ريال، ولا أعلم كم كان قبل الخصم؟ ولأن صغيرتي تعرف جيدا سياستي بالنسبة لهراء الأسعار المبالغ فيها فقد صمتت ولم تناقشني، بعد هذا الموقف بفترة بسيطة جدا، ذهبت لسوق معروف وشاهدت الجاكيت نفسه بالمعلومات المعلقة بباقته نفسها واللون والقماش والموديل نفسه، وسألت عن سعره وفوجئت بأنه بـ 150 ريالا، سألت البائع مستغربة عن تعارض الأسعار بشكل مستفز للمواطن، فقال بمنتهى الصدق والأمانة ''هذا ماما تاجر كبير يشتري ممكن 100 ألف جاكيت ''سيم سيم سعر''، بس ممكن بعضها ما فيه خياطة كويس هو يبيعها لتاجر صغير وهو يصلحها ويبيعها هنا'' يعني طلع الموضوع لا ماركة ولا يحزنون، بل هي مجرد ملابس عادية ومن بلد المنشأ نفسه، لكن فيها عيوب بسيطة في الخياطة فيقوم التاجر الكبير ببيعها لصغار التجار الذي يربحون جزءا بسيطا، أما اللقمة الكبيرة فيبتلعها التاجر بأضعاف أضعاف مضاعفة من السعر الأصلي!
من اليوم وصاعدا ليتنا نفكر ألف مرة قبل أن نقول ''لا يفوتك .. خيال''.. فنحن بحسن نية نسهم في رفع أسعار منتجات ربما لا تستحق.