هل يسرق البنك عملاءه؟
يتداول الكثيرون الفكرة السائدة التي تقول إن البنوك في جوهرها مؤسسات جشعة لا تبالي أخلاقياً حتى بالسرقة، وهي على استعداد لتنفيذ كامل أركانها ما دامت الفرصة مواتية سعياً لمصالحها، أو بالتحديد، لمصالح بعض الأفراد المرتبطين بها. السبب يعود بكل بساطة إلى أن المغريات في المؤسسة المالية أكثر من أي مكان آخر؛ لذا ستتحد مع قوى الشر الموجودة في النفس البشرية لتكون النتائج على حساب العملاء الأقل حظا والأضعف قدرة. دعونا نمر على بعض جوانب هذا الادعاء حتى تتضح الصورة أكثر وتتضح ملامح الطريق نحو تحقيق العدل لجميع الأطراف، خصوصا وأن رمي الاتهامات جزافا من ضعف الحجة والمبدأ، ولكن الصمت عن المجرم القوي من الضعف أيضا قبل أن يكون باباً لظلم الكثيرين.
أولا، مما لا شك فيه، تعتبر البنوك مؤسسات ثرية تتعامل أساسا مع النقود وترتبط بعلاقات مالية وثيقة مع أطراف المجتمع بشتى درجاته، وعياً أو ثراءً، وقد يتعامل الفرد مع البنك بصفته مستثمرا أو مقرضا أو مقترضا. ومن البدهي أن نذكر أن قطاع البنوك في كل دولة يعتبر من القطاعات التي تخضع نسبياً لعدد كبير من القوانين التنظيمية؛ وذلك لأهمية الأدوار التي تقوم بها في الدورة الاقتصادية، وهي بذلك تعتبر بؤراً للعديد من المخاطر على مستوى الدولة قبل الفرد. تقع المؤسسات المالية بين مطرقة الأنظمة - الدولية والمحلية - الساعية لضبطها واستقرارها وبين سندان المديرين والمستثمرين الذين يبحثون عن الربح والمنفعة.
مألوفة هي قصة العميل الذي يشعر بأن البنك يستغله ويقتطع من راتبه بطريقة نظامية ولكنها شرسة، ويأخذ منه أمواله بدون وجه حق. وبسبب ارتباطه التعاقدي طويل الأجل، لا يستطيع الهرب إلى بنك آخر ولا ترك وظيفته وهو مضطر للتعامل مع البنوك طوال حياته. ويتساءل، هل الخطأ مني أنا أم أن النظام قد تم تجييره بطريقة غير أخلاقية لخدمة مصالح البعض الآخر؟!
تتأرجح تجاوزات البنوك بين الشبهات الأخلاقية والجرائم الشنيعة. منها مثلا ما يكون نظاميا ولكنه خارج دائرة ما هو أخلاقي، كاستغلال جهل العميل لمصلحة البنك الخاصة دون تجاوز النظام ويشمل كذلك التقاعس عن توعيته. الدرجة الثانية تشمل ما لا يصل لمستوى الجريمة وإنما يعتبر مجرد مخالفة للنظام كتجاوز التعرفة المحددة بالاتفاق مع العميل. والدرجة الثالثة تشمل الجرائم التي يقع ضحيتها العميل أو المستثمر ويرعاها من يعمل في البنك، كالسرقة المباشرة المنتظمة أو الغش المعلوماتي لزيادة الأرباح والمكافآت. يحصل التجاوز - بغض النظر عن درجته - بطريقة فردية استثنائية أو بطريقة منتظمة واسعة الانتشار، وقد تكون جزءا لا يتجزأ من النسيج الثقافي للمؤسسة المالية نفسها وعادة من عاداتها الثابتة، في كل الأحوال لا بد من خضوع كل التجاوزات للحكم والإصلاح بطريقة تتناسب مع طبيعتها وانتشارها.
تتعرض البنوك للعديد من المبالغات والاتهامات الأخلاقية من محاربي الرأسمالية مثلا، ومع ذلك يظل هناك شبه إجماع عالمي على حساسية هذه المؤسسات وسهولة تفريطها في أداء دورها الاقتصادي المهم، وأقرب الأمثلة على ذلك ما حدث على أثر الأزمة المالية العالمية الأخيرة من اتهامات منوعة ومتبادلة. يشير ميرفن كينج ''محافظ بنك انجلترا المركزي السابق'' إلى أن نظام البنوك الذي يُسمح له بالعمل حالياً هو نظام مبني أساساً على استغلال العملاء والتركيز على العوائد السريعة والعاجلة، وهذا خطر محدق قد يرفع من فرص العودة المبكرة للأزمة المالية مرة أخرى. تؤتمن البنوك على أموال الغير، وهذا هو الأساس الذي يضاعف مسؤوليتها.
على الرغم من العمق التاريخي لقضية استغلال البنوك للعملاء إلا أن الحل اليوم يكمن بكل بساطة في الإصلاح التنظيمي المستمر لهذا القطاع الحيوي. ولكن يواجه الإصلاح عقبتين رئيستين، أولاً، تشكل الأنظمة المتزايدة خطرا على حرية السوق، وبالتالي قد تحد من قدرة المصارف على النمو والتعايش، مما يعني أن نتائج الإصلاح قد تصبح عكسية. إضافةً إلى ذلك، تشكل قوى المصالح والفساد والجهل حاجزا منيعا يقاوم الإصلاح البنكي من الداخل والخارج. على سبيل المثال تدعم البنوك الأمريكية سنوياً اللوبي المضاد للإصلاحات بملايين الدولارات، وهذا خلاف ما يحدث أيضاً في الخفاء من صفقات وتأثير في الجهات التنظيمية من قبل المتنفذين وأصحاب المصالح.
لهذه الأسباب تتأنى الجهات التنظيمية في الإصلاح حفاظا على استقرار التنافسية أو تدفقات السيولة أو انتظارا لإيجاد المدخل المؤثر والمناسب وتجنباً لردات الفعل العكسية. هذا ما يحقق فكرة أن بعض المؤسسات المصرفية ''أكبر (أو أهم) من أن تسقط''، حيث تسعى الحكومة لحماية البنوك والحفاظ على أدوارها ومصالحها على حساب الجمهور لمصلحة الجمهور!
تثبت الفضائح المالية العالمية أن المؤسسات الكبرى تسرق العملاء، باعتبار أن أموال العملاء هي في الأصل أمانة لدى هذه المؤسسات. ولكن، التفريق بين الحالات الفردية وبين ما ينتشر ويتسع تأثيره مهم جدا. من الطبيعي أن تحصل تجاوزات كالغش والسرقة في أي مؤسسة، والبنوك ليست بمنأى عن ذلك. في الحالات الفردية ينحصر الحل بين المُطالب بحقه وقوة القانون، ولكن إذا كانت الحالات تصل لمستوى الظاهرة أو تتعمق في تطبيقات وأساليب المؤسسات المصرفية تصبح الحاجة ماسّة للإصلاح العاجل. وهنا لا بد من العمل على كشف التحديات والعمل على تجاوزها، وهذا يتطلب قدرا كبيرا من التنظيمات المعززة للشفافية إضافةً إلى تفاعل أكبر يستند إلى الوعي من الجمهور - عملاء وغير عملاء - وبيئة قابلة للتطوير تستوعب كل ذلك.