الخفض التدريجي وظله
تعهدت البنوك المركزية في منطقة شمال الأطلسي بعدم زيادة أسعار فائدتها الاسمية قصيرة الأجل إلى أن تُظهِر الاقتصادات التي تخدمها أنها تعافت إلى حد كبير. وحتى الآن لم يحدث ذلك، بل إن هذه الاقتصادات لا تزال تعاني في مواجهة الرياح المالية العكسية المتمثلة في التقشف؛ وتحت وطأة حالة من عدم اليقين حول ما إذا كان الحزب الجمهوري في أمريكا قد يقوض في واقع الأمر ''إيمان الولايات المتحدة وكامل رصيدها'' من خلال السماح للحكومة الفيدرالية بالتخلف عن سداد ديونها؛ ومن جراء نظام تمويل الإسكان المعطل؛ فضلاً عن عدم اليقين حول كيفية تخصيص أعباء التكيف البنيوي.
وفي ظل كل هذه القضايا غير المحلولة يبدو من السابق لأوانه أن تبدأ البنوك المركزية في شمال الأطلسي حتى مجرد الحديث عن إنهاء التحفيز النقدي. ولكنها رغم هذا تفعل ذلك على وجه التحديد. وهي لا تخبرنا بأنها سوف تتراجع عن وعدها بعدم زيادة أسعار الفائدة قبل الأوان، ولكنها تقول إن قدرتها على تحمل الاستمرار في تضخيم موازناتها العمومية من خلال شراء سندات طويلة الأجل في مقابل أموال نقدية أصبحت محدودة للغاية. وقد يكون ''الخفض التدريجي'' المزعوم لمثل هذه المشتريات –على الرغم من تأجيله من قِبَل مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في الأسبوع الماضي- احتمالاً ليس بالبعيد.
والمشكلة هي أن الأسواق المالية لا تصدق ببساطة زعم البنوك المركزية بأن رغبتها الحالية في خفض التيسير الكمي تدريجياً غير مرتبطة بأي رغبة في زيادة أسعار الفائدة قصيرة الأجل في المستقبل. ويعتقد المستثمرون لأسباب وجيهة أن محافظي البنوك المركزية الذين يتلمسون الأعذار الآن لقطع التيسير الكمي سوف يتلمسون الأعذار أيضاً في المستقبل لإلغاء توجيهاتهم الجريئة بشأن تكاليف الاقتراض. وسوف يظل هذا هو اعتقاد المستثمرين ما لم يعرض عليهم محافظو البنوك المركزية في شمال الأطلسي أسباباً مقنعة تجعلهم يصدقون أن المزيد من التوسع في الموازنات العمومية للبنوك المركزية في شمال الأطلسي ينطوي على مخاطر كبيرة حقا.
ولكن كيف نفهم تزايد المخاطر عندما اشترى بنك الاحتياطي الفيدرالي ما قيمته 85 مليار دولار أخرى من الأوراق المالية طويلة الأجل في أيلول (سبتمبر)؟
يزعم البعض أن التيسير الكمي يزيد من المخاطر لأن الممولين يستخدمون هذه الأموال النقدية الإضافية لاستثمارها في الخارج، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملات في بلدان المقصد. ثم يعمل محافظو البنوك المركزية في هذه البلدان على توسيع المعروض من الأموال المحلية وخفض أسعار الفائدة عليها، فتعاني اقتصاداتها من فرط النشاط. ولكن كيف نعتبر هذه المخاطر مشكلة تخص البنك الاحتياطي الفيدرالي؟
يقول آخرون إن المخاطر تتزايد لأنه عندما يشتري البنك الاحتياطي الفيدرالي سندات الخزانة، يستجيب النظام المالي بتوسيع الائتمان والحفاظ على مراكز أكثر خطورة في الإجمال. وعندما تنخفض تكاليف تحمل المخاطر يتم تخصيص كمية أكبر من القدرة على تحمل المخاطر.
ولكن هذا يتجاهل حقيقة مفادها أن القدرة على تحمل المخاطر تنطوي على جانب الطلب فضلاً عن جانب العرض. ويعمل التيسير الكمي على تحييد المخاطر المرتبطة بمدة سندات الخزانة -حساسية أسعار السندات للتغيرات في أسعار الفائدة- ضمن البنوك المركزية التي ستحتفظ بالأوراق المالية حتى تاريخ استحقاقها. وعلى هذا فهل تعني المخاطر الأقل في الإجمال مخاطر أعلى في الإجمال؟
هذا غير منطقي. فمن هم الذين أصدروا كل السندات الخطرة واستبعدوا كل القروض الخطرة لزيادة الكم الإجمالي من المخاطر؟ إنهم ببساطة لا وجود لهم -ولو أنه لأمر رائع لو كان لهم وجود، لأنهم كانوا ليأخذون المال ويحملون الناس على العمل على بناء الأصول التي كانوا يأملون أن تسمح لهم بسداد قروضهم بأرباح معقولة.
ولكن أي المؤسسات تلك التي تخلق المخاطر النظامية؟ إذا كانت هي البنوك التجارية في الولايات المتحدة، فإن السياسة المناسبة تتلخص في إرسال مفتشي البنوك للتأكد من أنها لا تخوض مجازفات لا ضرورة لها بالودائع المؤمن عليها من قِبَل الحكومة والتحضير لوضعها تحت الحراسة القضائية إذا لزم الأمر. وإذا كانت المشكلة في البنوك الأمريكية العالمية وكان صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لا يثقون بقدرة تشريع دود - فرانك للإصلاح المالي لعام 2010 على تمكين الحل السليم والحراسة، فإن السياسة المناسبة تتلخص في تسليط الضوء على أوجه القصور في قانون دود - فرانك، وليس إرسال إشارات ''الخفض التدريجي'' التي تؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وتقويض صلاحية البنك المتمثلة في استهداف تحقيق المستوى الأقصى من تشغيل العمالة.
يتعين على صناع السياسات في بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وغيره من البنوك المركزية في شمال الأطلسي، الذين يعتقدون أن المزيد من التوسع في التيسير الكمي يفرض مخاطر كبيرة، أن يفسروا لنا على وجه الدقة ما هي تلك المخاطر ولماذا نحتاج إلى اتقائها الآن. وإذا لم يحدث هذا -إذا ظلت المخاطر التي تفرض إنهاء التيسير الكمي مبهمة وغامضة- فإنهم لن يتمكنوا من مواجهة اعتقاد المستثمرين بأن الخفض التدريجي للتيسير الكمي اليوم يعني مساراً جديداً لأسعار الفائدة غدا.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.