إدارة الصراع والنمو الاقتصادي
إن أحد أهم جوانب الأزمة الاقتصادية المطولة في أوروبا، بل وحتى الأزمة الأطول في اليابان، يتلخص في غياب الصراعات الاجتماعية الخطيرة ــ على الأقل حتى الآن. صحيح أن الأمر لا يخلو من الإضرابات والمسيرات والسخط المتزايد على الزعماء السياسيين، ولكن الاحتجاجات كانت سلمية إلى حد كبير.
ورغم أن هذا قد يتغير، فإن الفضل في توفير السلم الاجتماعي على هذا النحو لابد أن ينسب إلى مؤسسات مثل المؤسسة الانتخابية (استبعاد الأوغاد بالصناديق ليس بالوسيلة العنيفة للتنفيس عن الغضب الشعبي)، والمجالس التشريعية الديمقراطية المتجاوبة، والسلطة القضائية الفعّالة. فقد نجحت هذه المؤسسات في تسوية الصراعات السياسية في وقت اتسم بالشدة والعسر في الدول المتقدمة.
ويشير هذا إلى أن السبب الرئيسي للتخلف قد يكون أن مثل هذه المؤسسات، التي تسمح للدول بالتغلب على الشدائد التي تواجهها، مفتقدة في الاقتصادات الفقيرة. إن النمو الاقتصادي يسمح بتجاوز الصراع بين القوى الاجتماعية الفاعلة. ولكن الانكماش الاقتصادي يكشف الغطاء عادة عن التوترات الاجتماعية الكامنة أو يزيدها حدة.
ولكن لماذا يبدو تقاسم فوائد النمو أسهل كثيراً من تقاسم أعباء المحن؟ هذا ليس بالسؤال المبتذل. ولعل الإجابة تكمن في النفس البشرية ذاتها. فإذا كان الاستهلاك تشكله العادة، فإن تحمل الخسارة من الدخل أمر بالغ الصعوبة، وقد يناضل المرء لكي يتجنبه، في حين يصبح الكفاح من أجل تحقيق كسب إضافي أقل أهمية عندما تكون أمور المرء على ما يرام. وأيضا، لأن الصراع قد يدمر فرص النمو، فقد يُنظَر إليه بوصفه أمراً أكثر تكلفة عندما يكون النمو قويا. على سبيل المثال، قد يؤدي التشاحن بين العمال والإدارة إلى هروب المستثمرين ــــ وبالتالي إهدار فرص افتتاح مشاريع جديدة. ولكن إذا غابت فرص الاستثمار الجديدة في الأفق، فإن التشاحن يصبح أقل تكلفة، لأن المصانع والمعدات القائمة تشكل بالفعل تكاليف مفروغ منها ولا تأثير لها في قرارات المستقبل.
وبصرف النظر عن الأسباب التي تجعل الصراعات أكبر في أوقات الشدة الاقتصادية، فإن الكيفية التي يتعامل بها المجتمع معها تتوقف على نطاق ونوعية مؤسسات إدارة الصراعات في المجتمع. وقد أظهر الخبير الاقتصادي بول كوليير من جامعة أكسفورد أن سنوات من النمو الاقتصادي الضعيف تسبق الحروب الأهلية عادة في الدول الفقيرة. وحتى بعد إرساء السلام، فإن احتمالات العودة إلى الصراع في هذه البلدان تكون مرتفعة عادة.
وليس من المستغرب أن تكون مؤسسات إدارة الصراعات في مثل هذه الدول ضعيفة ـــ عدم الانتظام في إنفاذ القانون، والالتزام المحدود بالمبادئ الديمقراطية، ونقص الضوابط والتوازنات اللازمة لضبط عمل الحكومة. وعلى نحو مماثل، وجد الخبير الاقتصادي داني رودريك من جامعة هارفارد أن الدول التي شهدت أكثر انحدارات النمو حدة بعد عام 1975 كانت مجتمعاتها مقسمة ومؤسسات إدارة الصراعات لديها ضعيفة.
هل تستطيع البلدان التي لا تتمتع بهيئات تشريعية أو قانونية فعّالة وجديرة بالثقة أن تقدم أداءً أفضل في الوقاية من دورات الانحدار والركود؟
قد نجد الإجابة عن هذا التساؤل في الاستعانة بترتيبات تعتمد بشكل محدود على الهيئة القانونية لفرضها وتنفيذها. على سبيل المثال، تحظر عقود العمل فعلياً على أرباب العمل في العديد من الدول النامية فصل العمال. ولكن هذا يلحق الضرر بالكفاءة والفعالية لأن الشركات تصبح غير قادرة على التكيف بسرعة مع ظروف العمل المتغيرة.
وفي كثير من الأحيان يُعزى هذا الحظر إلى النقابات التي تتمتع بقوة مفرطة والتي تأسر الاقتصاد رهن إرادتها. ولكن إذا كانت المحاكم الفاسدة أو البطيئة تعني أن العمال المفصولين ظلماً لا يملكون اللجوء إلى القضاء، فربما يشكل الحظر المفروض على الفصل ــــ الذي يتم فرضه من خلال الاحتجاجات الحاشدة ضد الانتهاكات، التي يستطيع عامة الناس ملاحظتها بسهولة ــ الوسيلة الوحيدة لحماية العمال من القرارات التعسفية من قِبَل أرباب العمل.
وقد تخدم "حيازة" الوظائف أيضاً كشكل من أشكال الضمان الاجتماعي، لأن أداء الحكومة بائس في توفير شبكات الأمان، ولأن أسواق التأمين الخاصة غير متاحة. وبالتالي فإن العقود غير المرنة قد توفر الحماية للعمال عندما يكون رجحان قوة المساومة لمصلحة الشركات.
ولا تأتي مثل هذه الترتيبات غير المرنة بلا تكلفة. ففي أوقات الانحدار تفلس شركات كثيرة، لأنها غير قادرة عن الاستغناء عن العمالة. وبدلاً من ذلك فإن الشركات، التي تعلم أنها لا تستطيع فصل العمال الدائمين، قد تحرص على الإبقاء على أحجامها صغيرة حتى يتسنى لها أن تظل أدنى من مستوى رادار السلطات. أو قد تستأجر الشركات عمالاً غير رسميين لا حقوق لهم، أو ترشو المفتشين لحملهم على التغاضي عن انتهاكاتها "وأستشهد هنا بسلامة أماكن العمل في مصانع الملابس في بنجلادش".
وبالتالي، فإن محاولة حماية العمال باستنان قوانين عمل صارمة قد تؤدي إلى نتيجة غير مقصودة تتمثل في توليد عدد قليل للغاية من الوظائف. وقد تكون هذه هي الحال في الهند، حيث لا يحظى العمال إلا بأقل القليل من الحقوق، أما الشركات الضخمة القليلة الراسخة في القطاع الرسمي فإنها تميل إلى استخدام الكثير من رأس المال الموفر للعمالة من أجل تجنب توظيف العمالة المحمية.
إن التغيير المستدام في الدول النامية لا يتطلب إصلاح ترتيبات بعينها فحسب، مثل قوانين العمل الجامدة، بل ويتطلب أيضاً إقامة مؤسسات أكثر قاعدية، مثل الهيئات التشريعية والقضائية، لجعلها أكثر قدرة على الاستجابة لاحتياجات الناس. وإذا أراد مواطنو الدول المتقدمة أن يشعروا بقدر أكبر قليلاً من الارتياح إزاء النمو البطيء وارتفاع البطالة في اقتصادات بلدانهم، فما عليهم إلا أن يفكروا إلى أي مدى قد تسوء الأمور في غياب المؤسسات التي ينعمون بها.