غلاء المعيشة.. مسؤولية من؟
بطبيعة مجتمعنا هنا أن تلقى التهمة "كأنها تهمة" بارتفاع الأسعار على طرفين لا ثالث لهما، الدولة أي الوزارات المسؤولة، وأولها وزارة التجارة، أو التجار الذين هم أساس كل ارتفاع رغبة منهم في تعظيم أرباحهم وأموالهم، هذه هي النظرة أو القراءة الأولى للمتهمين عن ارتفاع الأسعار، وهذا غير صحيح على الإطلاق. نعم هناك مسؤولية على الجهات المسؤولة في الدولة ولكنها نسبية تماما، أو التجار الذين هم يبالغون في الأسعار لكي يحققوا أرباحا فاحشة وكبيرة، ولكن لم يسأل هذا المواطن أو الذي يتهم أن هناك منافسة وهناك بدائل، ولا يوجد احتكار. لكن لنطرح القضية بطريقة علمية وقراءة موضوعية لأسباب ارتفاع الأسعار، حتى نكون منصفين ومتفهمين لقراءة الوضع أرجو أن نتابع أسباب الارتفاع.
في البداية، مفهوم ارتفاع الأسعار هي منطقية سنويا، من رؤية تكلفة المعيشة الكلية، ففي اقتصاديات الدول، هناك ارتفاع في الأسعار سنويا، وتعتمد على اقتصاد كل دولة وظروفها وهذا تفصيل كبير ليس مجال طرحه، ففي ظل نمو سكاني وموارد شبه مستقرة أو غير متجددة، وطلب مستمر على السلع والخدمات فهذا يعني نموا في الأسعار سنويا لا يقل عن نسبة ولكن المهم هناك زيادة في الأسعار، وأقرب مثال قارن أي سلعة تستورد من الخارج هل رأيت سعرا يتراجع منذ سنوات؟ سواء سيارات أو مواد غذائية أو دواء. لأسباب زيادة التكلفة من المنشأ، سواء من خلال زيادة فارق العملة مقارنة بسعر الريال لدينا، كما نلاحظ الآن انحدارا في سعر الدولار المرتبط بالريال، بالتالي تقلص القوة الشرائية له، وارتفاعا في العملات الأخرى، إذن قوة الريال هي ضعيفة وهو المعتمد على تسعيرة الدولار، فهي قيمة تتآكل مقارنة باليورو أو الجنيه أو الين.
أيضا هناك متغيرات مهمة يجب أن تربط بارتفاع الأسعار، وهناك نظرية بسيطة تقول إن التضخم لأسباب اختلال التوازن بين "الإنتاج، والاستهلاك، والادخار، والاستثمار"، ونحن الآن في وضع اقتصادي يحقق نموا لا يقل عن 6.5 في المائة كاقتصادي كلي، وبالتالي يعني زيادة الطلب على السلع والخدمات، وتقلص المدخرات لأسباب اقتصادية نتيجة ما فعله سوق الأسهم كجزء من المشكلة وليس كل المشكلة، وأيضا زيادة الضخ المالي في الاستثمار والمشاريع، كل هذا النمو وزيادة الطلب يتطلب، زيادة دخل العاملين، وبالتالي الإنفاق، وكل ما زاد الإنفاق قل العرض من السلع والخدمات. أيضا من أسباب الارتفاع، زيادة الدخل في الرواتب كما أقرتها الدولة أخيرا، وهذا يعني "بمفهوم اقتصادي" أن زيادة الدخل تعني زيادة الإنفاق والطلب على الحاجات، وهذا يعني قوة شرائية أكبر حتى من الحاجة الفعلية، وهذا سبب إقبالا أكبر على الشراء، كذلك دور البنوك في الإقراض وتوفير السيولة للمواطن بأسعار فائدة أقل، وفترات طويلة، وهذا يخلق قوة شرائية مؤقتة، وتقلص مدخرات وارتفاعا في الأسعار، ويظل المواطن مستمرا في طلب القروض وبالتالي الطلب المستمر على السلع والخدمات حتى بأكثر من حاجته الفعلية، ولا ننسى أن هناك عوامل ليست بسيطرة الدولة أو التاجر، التغيرات الجوية، والظروف السياسية وصرف العملة، خاصة في السلع الاستهلاكية، يجب ألا نتصور أن زيادة الرواتب أو الدخل بأي شكل وصورة والإقراض البنكي والنمو الاقتصادي يعني استقرار الأسعار، بالعكس تعني زيادة في الأسعار وزيادة مستمرة، ولدينا توسعات كبرى ونمو سكاني كبير، وسلوك مستهلكين غير رشيد لسبب أنه يشتري ما يحتاج وما لا يحتاج، وهذا السلوك يولد طلبا عاليا على السلع والخدمات.
بعد الاستعراض المبسط لسبب ارتفاع الأسعار، لنطرح بعض الحلول الممكنة، أولها زيادة سعر الفائدة البنكية، لتقليص قوة النقد في الاقتصاد، فحين يبقى نقد كبير وعرض قليل يعني استمرار الارتفاع السعري، تقليص حجم الإقراض قدر الإمكان لتقليص قوة النقد وهذا سيضر بالبنوك وربحيتها ولا تقبل بها وهنا يأتي دور البنك المركزي المفترض، تغيير السلوك الاستهلاكي الإسرافي لدى المواطن والبحث عن البدائل، إعادة النظر في ربط الريال بالدولار لأن قيمة الدولار تتآكل ومعها الريال أمام العملات الأخرى، عدم تركز النشاط الاقتصادي في مناطق محدودة ومتضخمة سكانيا وعمرانيا.
في النهاية غلاء الأسعار، هو انعكاس لمتغيرات اقتصادية ترتبط بالدولة وسياستها المالية، وحالة الاقتصاد، والمواطن وسلوكه، والتاجر، والظروف السياسية، وصرف العملة، فليس بالإمكان السيطرة على كل ذلك من طرف واحد، أو يمكن قياس كل ذلك، إذا نقتنع أنها متغيرات ليست بسيطرة أي طرف، والمعالجة تأتي باستراتيجيات بعيدة المدى وسياسة نقدية ومالية واعية ومدركة، وتجانس كل المتغيرات الأخرى إن قدر لها أن تكون متوازنة، وإلا ارتفاع الأسعار لن يقف بقرار أي جهة حكومية أو غيره.